أولا: من وسائل التعليم المتعارف عليها شرعًا وعرفًا، قديمًا وحديثًا، التعليم بالقصة والرواية، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من ذلك الكثير.
فقد وردت صور تخيلية في القرآن على سبيل التعليم أو التشبيه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
ومنه قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175-176].
فهذه صور تقرب واقع الحال في ذهن المتلقي.
ومنه في السنة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من قصص عن الأمم السابقة موعظة لأهل الإسلام، ومنه قصة كنز الدار، وخشبة المدين وغير ذلك.
ثانيا: القصة إما أن تكون عن حادثة حقيقية تروى ، وإما أن تكون من صنع الراوي؛ فإن كانت الأولى ، فشروطها شروط نقل الرواية المتعارف عليها في علم الأصول، وإن جاز زيادة شرح أو بيان لما قد يغمض من الأحداث على طريقة أهل الرواية.
وإن كانت الثانية فقد اختلف العلماء في حكمها:
– فذهب البعض للمنع، واعتبروا ذلك من باب الكذب والتقول، لا سيما أن القصص تقدر أحداثاً وأشخاصًا بأعيانهم، فيكون من باب شهادة الأداء.
وقد ألَّف بعض الفقهاء في ذلك ومنهم الإمام ابن الجوزي والإمام السيوطي الذي ألَّف كتابه (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص).
– وذهب البعض الآخر إلى جواز ذلك بشروط، واعتبروا ذلك من مطلق الوعظ المباح ، ومن وسائله الجائزة ، واعتبروا منه ما ورد في القرآن والسنة من ضرب للأمثلة التشخيصية، ومنه مثلا حديث أهل السفينة، الذي حوى فعلا وردة فعل وتصويرًا للحدث.
والذي يتوجه إليه الرأي أن هذا النوع من الفنون تكتنفه الأحكام التكليفية الخمسة، وأصله هو الإباحة لأنه من أعمال الدنيا، ولكنه يجوز بشروط منها:
١- ألا ينطوي العمل على ما ينافي العقائد أو الأحكام الشرعية أو الآداب العامة.
٢- ألا يمجد باطلا أو يسوغ شرًّا، أو يدعو إلى علمانية سلوكية مقنعة.
٣- أن يشار في حالة الاقتباس من الواقع إلى أنه مزيج من الواقع والخيال لئلا يقع تلبيس على المتلقين ، فيخلطون الحقيقة بالخيال .
٤- أن يكون خلف النص هدف وغاية، ولا يقع موقع إضاعة الوقت والجهد الذي رأيناه في كثير من الأعمال التي كتبت بعد هزيمة ١٩٦٧ مما يعتبر نوعًا من التخدير للمجتمعات .
وإذ كنا نقول بالجواز فتعتمد في ذلك على :
– الأصل العام الذي ينص على الإباحة في أعمال الدنيا إلا ما ورد النص الشرعي بمنعه.
– القياس على بعض ما ورد من أمثلة تخيلية في السنة وكلام الصحابة والتابعين، ومنه مثلا ما جاء في قصة مجادلة الإمام الأعظم رضي الله عنه لبعض الدهريين، واختراعه صورة تخيلية لإقامة الحجة عليهم بلازم كلامهم.
– ما جاء في التراث الإسلامي وتلقته الأمة بالمسامحة وفيهم العلماء، ومنه ما جاء من تصوير في أشعار العرب لأحداث وأقوال لم تقع فعلا، ومنه ما جاء في الأدب ومنه قصة حي بن يقظان التي ألفها الفيلسوف ابن سينا، وأعاد صياغتها السهروردي، ثم كتبها وفصلها ابن الطفيل، ومن بعده ابن النفيس، حيث شاعت القصة وتأثر بها كتاب من الغرب من أمثال جون لوك، وجان جاك روسو، والكاتب دانييل ديفو الذي ألف (روبنسون كروز).
ومن ذلك أيضا ما كتبه الحريري في مقاماته وتلقته الأمة بالقبول، لما فيه من الحكاية والحكمة والموعظة.
ومنهم كذلك الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي ترجم رواية مغامرات تليماك.
أما في العصر الحديث فقد توسع فن الرواية وتنوع، ما بين روايات تعليمية وفلسفية وتاريخية، بل صار هناك مزج بين التاريخي والخيالي، ومنه مثلا ما كتبه أستاذنا أحمد رائف في رائعته (وتذكروا من الأندلس الإبادة) حيث بنى الرواية على قصة سقوط غرناطة، وخبر موسى بن أبي الغسان، الذي توسع فيه خيالا، وفي غيره من باب الإسقاط السياسي والاجتماعي على واقعنا المعاصر.
وبالجملة:
ما دام الخيال منضبطًا بالقواعد المذكورة فهو على أصل الإباحة ، بل يندب لأنه من باب الإبداع البشري الذي يتميز به المكلف عن غيره ويمدح به.
المفتي: د خالد نصر
فقد وردت صور تخيلية في القرآن على سبيل التعليم أو التشبيه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
ومنه قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175-176].
فهذه صور تقرب واقع الحال في ذهن المتلقي.
ومنه في السنة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من قصص عن الأمم السابقة موعظة لأهل الإسلام، ومنه قصة كنز الدار، وخشبة المدين وغير ذلك.
ثانيا: القصة إما أن تكون عن حادثة حقيقية تروى ، وإما أن تكون من صنع الراوي؛ فإن كانت الأولى ، فشروطها شروط نقل الرواية المتعارف عليها في علم الأصول، وإن جاز زيادة شرح أو بيان لما قد يغمض من الأحداث على طريقة أهل الرواية.
وإن كانت الثانية فقد اختلف العلماء في حكمها:
– فذهب البعض للمنع، واعتبروا ذلك من باب الكذب والتقول، لا سيما أن القصص تقدر أحداثاً وأشخاصًا بأعيانهم، فيكون من باب شهادة الأداء.
وقد ألَّف بعض الفقهاء في ذلك ومنهم الإمام ابن الجوزي والإمام السيوطي الذي ألَّف كتابه (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص).
– وذهب البعض الآخر إلى جواز ذلك بشروط، واعتبروا ذلك من مطلق الوعظ المباح ، ومن وسائله الجائزة ، واعتبروا منه ما ورد في القرآن والسنة من ضرب للأمثلة التشخيصية، ومنه مثلا حديث أهل السفينة، الذي حوى فعلا وردة فعل وتصويرًا للحدث.
والذي يتوجه إليه الرأي أن هذا النوع من الفنون تكتنفه الأحكام التكليفية الخمسة، وأصله هو الإباحة لأنه من أعمال الدنيا، ولكنه يجوز بشروط منها:
١- ألا ينطوي العمل على ما ينافي العقائد أو الأحكام الشرعية أو الآداب العامة.
٢- ألا يمجد باطلا أو يسوغ شرًّا، أو يدعو إلى علمانية سلوكية مقنعة.
٣- أن يشار في حالة الاقتباس من الواقع إلى أنه مزيج من الواقع والخيال لئلا يقع تلبيس على المتلقين ، فيخلطون الحقيقة بالخيال .
٤- أن يكون خلف النص هدف وغاية، ولا يقع موقع إضاعة الوقت والجهد الذي رأيناه في كثير من الأعمال التي كتبت بعد هزيمة ١٩٦٧ مما يعتبر نوعًا من التخدير للمجتمعات .
وإذ كنا نقول بالجواز فتعتمد في ذلك على :
– الأصل العام الذي ينص على الإباحة في أعمال الدنيا إلا ما ورد النص الشرعي بمنعه.
– القياس على بعض ما ورد من أمثلة تخيلية في السنة وكلام الصحابة والتابعين، ومنه مثلا ما جاء في قصة مجادلة الإمام الأعظم رضي الله عنه لبعض الدهريين، واختراعه صورة تخيلية لإقامة الحجة عليهم بلازم كلامهم.
– ما جاء في التراث الإسلامي وتلقته الأمة بالمسامحة وفيهم العلماء، ومنه ما جاء من تصوير في أشعار العرب لأحداث وأقوال لم تقع فعلا، ومنه ما جاء في الأدب ومنه قصة حي بن يقظان التي ألفها الفيلسوف ابن سينا، وأعاد صياغتها السهروردي، ثم كتبها وفصلها ابن الطفيل، ومن بعده ابن النفيس، حيث شاعت القصة وتأثر بها كتاب من الغرب من أمثال جون لوك، وجان جاك روسو، والكاتب دانييل ديفو الذي ألف (روبنسون كروز).
ومن ذلك أيضا ما كتبه الحريري في مقاماته وتلقته الأمة بالقبول، لما فيه من الحكاية والحكمة والموعظة.
ومنهم كذلك الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي ترجم رواية مغامرات تليماك.
أما في العصر الحديث فقد توسع فن الرواية وتنوع، ما بين روايات تعليمية وفلسفية وتاريخية، بل صار هناك مزج بين التاريخي والخيالي، ومنه مثلا ما كتبه أستاذنا أحمد رائف في رائعته (وتذكروا من الأندلس الإبادة) حيث بنى الرواية على قصة سقوط غرناطة، وخبر موسى بن أبي الغسان، الذي توسع فيه خيالا، وفي غيره من باب الإسقاط السياسي والاجتماعي على واقعنا المعاصر.
وبالجملة:
ما دام الخيال منضبطًا بالقواعد المذكورة فهو على أصل الإباحة ، بل يندب لأنه من باب الإبداع البشري الذي يتميز به المكلف عن غيره ويمدح به.
المفتي: د خالد نصر