أولًا: تكلم الأستاذ الدكتور العلامة فاضل السامرائي عن الفرق بين هذه الأنواع الثلاثة وأحصاها في القرآن، والدكتور فاضل يعد أستاذًا لأساتذتي، وهو رجل أنعم الله عليه بالعلم والحكمة، وأعطاه فهمًا خاصًّا لأسرار القرآن.
يقول الدكتور فاضل ما خلاصته:
أن هذه الأوصاف الثلاثة للفوز وردت في القرآن في سياقات متنوعة، وأن أعلاها في الدرجة هو الفوز العظيم ثم الكبير ثم المبين:
“فالله يذكر ثلاثة أنواع من الفوز، الفوز العظيم، الفوز الكبير، الفوز المبين. أعلاها العظيم وأقل منه الفوز الكبير وأقل منهما الفوز المبين. ولذلك لو لاحظنا الاستعمال في القرآن الكريم لما يذكر المبين يذكره أقل من الآخرين الكبير والعظيم، يذكر الفوز المبين في أمرين إما في صرف العذاب (ليس الجنة) أو الإدخال في رحمته لم يذكر الجنة، لم يذكر إدخال الجنة {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الأنعام: 15-16] صرف العذاب لم يذكر دخول الجنة، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الجاثية: 30] ذكر المبين ولم يذكر الجنة. الكبير وردت في موطن واحد في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}[البروج: 11]. العظيم يزيد على ذلك في الجزاء إما بذكر الخلود أو ذكر المساكن الطيبة وما إلى ذلك، على سبيل المثال: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [المائدة: 119]. هناك فقط قال: (جنات تجري من تحتها الأنهار) هنا قال فيها: (خالدين فيها أبدًا)، زاد عليها هنا فقال عظيم. {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] زاد على ما ذكره في البروج، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[غافر: 8-9] عندما ذكر أوسع من الكبير قال العظيم. فهي مرتبة هكذا المبين أعلى منها الكبير وأعلى منها العظيم. كلٌّ بحسب الدرجات وما جاء معه من أوصاف النعيم.
وقد وردت في القرآن الكريم في الآيات التالية:
الفوز العظيم
عدد الآيات: 13
1 النساء 4 13 {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
2 المائدة 5 119 {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
3 التوبة 9 72 {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
4 التوبة 9 89 {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
5 التوبة 9 100 {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
6 التوبة 9 111 {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
7 يونس 10 64 {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
8 الصافات 37 60 {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
9 غافر 40 9 {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
10 الدخان 44 57 {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
11 الحديد 57 12 {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
12 الصف 61 12 {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
13 التغابن 64 9 {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
الفوز الكبير
عدد الآيات: 1
1 البروج 85 11 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}.
الفوز المبين
عدد الآيات: 2
1 الأنعام 6 16 {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}.
2 الجاثية 45 30 {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}”.
انتهى إلى هنا كلام العلامة السامرائي.
ثانيا: وأنا إذ أتفق معه فيما ذهب إليه وهو الإمام الحبر في هذا الباب أود أن أتجرأ في حضرة كلامه ومعية تفسيره، وأزيد وأقول:
هناك فرق نلمحه بين الألفاظ الثلاثة، طرائق دلالتها على المقصود في السياق:
– فالعظمة: فيها معنى الإحاطة فتشمل المقدار والهيئة فهي وصف شامل، ولذا فإنا نقول: ملك عظيم، ولا نقول كبير، وإن كان كذلك أو مبين وإن كان كذلك؛ إذ لا معنى لذكر الكبر والإبانة مع وجود لفظ العظمة الجامع، فالفوز العظيم يشمل كل نواحي الفوز في المقدار وهو الثواب والعطية، وفي الهيئة وهي الخلود والديمومة، وفي نوعية العطايا الموصوفة بالطيبة.
– والكِبَرُ في وصف الفوز بالكبير وإن كان مدحا ووصفا إلا أن الكبر عادة ينصرف إلى المقدار زمنًا أو كمية؛ فذلك الفوز الكبير جاء وصفا مطلقا للجنة وهو ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات في المطلق، فإن ارتقوا ارتقت درجتهم واشتملت على ما هو أعلى، والآية هنا عامة وليست خاصة وهي ايضا بمقابلة الآية السابقة: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات….} {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات….}.
– أما وصف المبين فهو لا يدل لا على الشمول ولا على المقدار، وإنما هو وصف باعتبار الناظر والرائي، ذلك هو الفوز المبين، أي: الواضح الجلي الذي لا يحتاج إلى تدبر وتأمل، وهو يخاطب العقل عن طريق حاسة الإدراك :
فمن نظر رَآه.
ومن سمع أحسه.
ومن لمس وجده وهكذا .
ومع ذلك فمدار الإبانة الأقوى والأوضح هو الإدراك العقلي التحليلي: وذلك بمعرفة النعمة المجردة، أو بمقارنة النعمة بما يقابلها من نقمة، وهو ما نراه في الآيتين التي ورد فيهما لفظ (المبين).
ثالثا: أضيف أيضا عاملا آخر لا يلتفت إليه الكثير ممن يتأمل ويفسر؛ ألا وهو ( الفاصلة)، والفاصلة هي رأس الآية، وآيات القرآن كثيرًا ما تلتزم فاصلة معينة وأحيانا تخالف الفاصلة فواصل السابق واللاحق من الآيات، وهنا يجب الانتباه جيدًا، إذ عمل المفسر أن يزيل الإبهام، فإذا أخذنا مثلا ( ذلك الفوز العظيم) نجد أنها تتناسب مع فواصل السورة التي وردت فيها سواء اتفقت مع ما قبلها أو اختلفت؛ ففي سورة النساء مثلا اختلفت مع ما قبلها، إذ الفاصلة الغالبة في سورة النساء هي الألف المبدلة من تنوين الفتح ( رقيبا، مريئا، شهيدا…) فكان يمكن أن تكون الفاصلة هنا ( عظيما) لو غيرنا في التركيب، ولكن ما وردت به الآية يتناسب أكثر مع سياق الآية: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فالمد في كلمة (العظيم) الذي يتسع لست حركات يعطي مساحة من التنغيم والإطالة تتناسب مع النعمة المذكورة وما فيها من ذكر الخلود.
انظر إلى الكلمات: (جنات – تجري- أنهار – خالدين) كلها نعم ممتدة يناسبها المد والترنم.
وانظر أيضا إلى الجمع بين طاعة الله وطاعة الرسول بعد ذكر حدود الله، هذا أيضا يناسبه الإطالة في المد بطول السياق المذكور.
ليس هذا فقط؛ فالميم في كلمة (العظيم) تقابل النون في كلمة (مهين) في الآية اللاحقة، والميم والنون كلاهما حرف غنة ومتقاربان في المخرج، وفيهما راحة في الترنم فرحا وترحا، فمخالفة الفاصلة بلفظ العظيم هنا جاءت في موضعها.
وهكذا إذا طبقنا هذا على كل مواضع: {ذلك الفوز العظيم}.
أما إذا أتينا إلى لفظ ( الكبير) فنجد أيضا أنه خالف مألوف فواصل السورة وإن كانت الفواصل فيها متنوعة أصلا:
فمد وجيم – ومد ودال في غالبها – ومد وراء – ومد وق – ومد وباء – ومد وطاء – ومد وظاء.
فإذا تأملنا في فواصل هذه السورة نجدها جميعا من الحروف المجهورة ، وهي حروف أيضا شديدة في غالبها بخلاف الظاء في نهاية السورة، فالفواصل فيها صفة الجهر وفيها صفة الشدة، كما أنها مقلقلة في أكثرها، وهذا يتناسب مع جو السورة والقصة وشدتها.
فإذا كان ذلك كذلك، فكلمة الكبير تناسب جو السورة أكثر من كلمتي (عظيم) و(مبين)؛ إذ إن الراء فيها صفة الجهر وهي متوسطة في الشدة والتكرير يقابل القلقلة، على حين أن الميم وإن قاربت الراء في الأوليين إلا أنها تضعف عنها بالغنة، والنون مهموسة وليست مجهورة أصلا، وفيها ضعف الغنة أيضًا.
ولذا جاء الوصف بالكبر دون الوصفين الآخرين.
هذا ما تيسر لي في هذه العجالة ولو كان الحال غير حال الفتوى لأفضت فيه أكثر من ذلك.
هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر
يقول الدكتور فاضل ما خلاصته:
أن هذه الأوصاف الثلاثة للفوز وردت في القرآن في سياقات متنوعة، وأن أعلاها في الدرجة هو الفوز العظيم ثم الكبير ثم المبين:
“فالله يذكر ثلاثة أنواع من الفوز، الفوز العظيم، الفوز الكبير، الفوز المبين. أعلاها العظيم وأقل منه الفوز الكبير وأقل منهما الفوز المبين. ولذلك لو لاحظنا الاستعمال في القرآن الكريم لما يذكر المبين يذكره أقل من الآخرين الكبير والعظيم، يذكر الفوز المبين في أمرين إما في صرف العذاب (ليس الجنة) أو الإدخال في رحمته لم يذكر الجنة، لم يذكر إدخال الجنة {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الأنعام: 15-16] صرف العذاب لم يذكر دخول الجنة، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الجاثية: 30] ذكر المبين ولم يذكر الجنة. الكبير وردت في موطن واحد في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}[البروج: 11]. العظيم يزيد على ذلك في الجزاء إما بذكر الخلود أو ذكر المساكن الطيبة وما إلى ذلك، على سبيل المثال: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [المائدة: 119]. هناك فقط قال: (جنات تجري من تحتها الأنهار) هنا قال فيها: (خالدين فيها أبدًا)، زاد عليها هنا فقال عظيم. {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] زاد على ما ذكره في البروج، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[غافر: 8-9] عندما ذكر أوسع من الكبير قال العظيم. فهي مرتبة هكذا المبين أعلى منها الكبير وأعلى منها العظيم. كلٌّ بحسب الدرجات وما جاء معه من أوصاف النعيم.
وقد وردت في القرآن الكريم في الآيات التالية:
الفوز العظيم
عدد الآيات: 13
1 النساء 4 13 {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
2 المائدة 5 119 {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
3 التوبة 9 72 {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
4 التوبة 9 89 {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
5 التوبة 9 100 {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
6 التوبة 9 111 {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
7 يونس 10 64 {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
8 الصافات 37 60 {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
9 غافر 40 9 {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
10 الدخان 44 57 {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
11 الحديد 57 12 {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
12 الصف 61 12 {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
13 التغابن 64 9 {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
الفوز الكبير
عدد الآيات: 1
1 البروج 85 11 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}.
الفوز المبين
عدد الآيات: 2
1 الأنعام 6 16 {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}.
2 الجاثية 45 30 {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}”.
انتهى إلى هنا كلام العلامة السامرائي.
ثانيا: وأنا إذ أتفق معه فيما ذهب إليه وهو الإمام الحبر في هذا الباب أود أن أتجرأ في حضرة كلامه ومعية تفسيره، وأزيد وأقول:
هناك فرق نلمحه بين الألفاظ الثلاثة، طرائق دلالتها على المقصود في السياق:
– فالعظمة: فيها معنى الإحاطة فتشمل المقدار والهيئة فهي وصف شامل، ولذا فإنا نقول: ملك عظيم، ولا نقول كبير، وإن كان كذلك أو مبين وإن كان كذلك؛ إذ لا معنى لذكر الكبر والإبانة مع وجود لفظ العظمة الجامع، فالفوز العظيم يشمل كل نواحي الفوز في المقدار وهو الثواب والعطية، وفي الهيئة وهي الخلود والديمومة، وفي نوعية العطايا الموصوفة بالطيبة.
– والكِبَرُ في وصف الفوز بالكبير وإن كان مدحا ووصفا إلا أن الكبر عادة ينصرف إلى المقدار زمنًا أو كمية؛ فذلك الفوز الكبير جاء وصفا مطلقا للجنة وهو ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات في المطلق، فإن ارتقوا ارتقت درجتهم واشتملت على ما هو أعلى، والآية هنا عامة وليست خاصة وهي ايضا بمقابلة الآية السابقة: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات….} {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات….}.
– أما وصف المبين فهو لا يدل لا على الشمول ولا على المقدار، وإنما هو وصف باعتبار الناظر والرائي، ذلك هو الفوز المبين، أي: الواضح الجلي الذي لا يحتاج إلى تدبر وتأمل، وهو يخاطب العقل عن طريق حاسة الإدراك :
فمن نظر رَآه.
ومن سمع أحسه.
ومن لمس وجده وهكذا .
ومع ذلك فمدار الإبانة الأقوى والأوضح هو الإدراك العقلي التحليلي: وذلك بمعرفة النعمة المجردة، أو بمقارنة النعمة بما يقابلها من نقمة، وهو ما نراه في الآيتين التي ورد فيهما لفظ (المبين).
ثالثا: أضيف أيضا عاملا آخر لا يلتفت إليه الكثير ممن يتأمل ويفسر؛ ألا وهو ( الفاصلة)، والفاصلة هي رأس الآية، وآيات القرآن كثيرًا ما تلتزم فاصلة معينة وأحيانا تخالف الفاصلة فواصل السابق واللاحق من الآيات، وهنا يجب الانتباه جيدًا، إذ عمل المفسر أن يزيل الإبهام، فإذا أخذنا مثلا ( ذلك الفوز العظيم) نجد أنها تتناسب مع فواصل السورة التي وردت فيها سواء اتفقت مع ما قبلها أو اختلفت؛ ففي سورة النساء مثلا اختلفت مع ما قبلها، إذ الفاصلة الغالبة في سورة النساء هي الألف المبدلة من تنوين الفتح ( رقيبا، مريئا، شهيدا…) فكان يمكن أن تكون الفاصلة هنا ( عظيما) لو غيرنا في التركيب، ولكن ما وردت به الآية يتناسب أكثر مع سياق الآية: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فالمد في كلمة (العظيم) الذي يتسع لست حركات يعطي مساحة من التنغيم والإطالة تتناسب مع النعمة المذكورة وما فيها من ذكر الخلود.
انظر إلى الكلمات: (جنات – تجري- أنهار – خالدين) كلها نعم ممتدة يناسبها المد والترنم.
وانظر أيضا إلى الجمع بين طاعة الله وطاعة الرسول بعد ذكر حدود الله، هذا أيضا يناسبه الإطالة في المد بطول السياق المذكور.
ليس هذا فقط؛ فالميم في كلمة (العظيم) تقابل النون في كلمة (مهين) في الآية اللاحقة، والميم والنون كلاهما حرف غنة ومتقاربان في المخرج، وفيهما راحة في الترنم فرحا وترحا، فمخالفة الفاصلة بلفظ العظيم هنا جاءت في موضعها.
وهكذا إذا طبقنا هذا على كل مواضع: {ذلك الفوز العظيم}.
أما إذا أتينا إلى لفظ ( الكبير) فنجد أيضا أنه خالف مألوف فواصل السورة وإن كانت الفواصل فيها متنوعة أصلا:
فمد وجيم – ومد ودال في غالبها – ومد وراء – ومد وق – ومد وباء – ومد وطاء – ومد وظاء.
فإذا تأملنا في فواصل هذه السورة نجدها جميعا من الحروف المجهورة ، وهي حروف أيضا شديدة في غالبها بخلاف الظاء في نهاية السورة، فالفواصل فيها صفة الجهر وفيها صفة الشدة، كما أنها مقلقلة في أكثرها، وهذا يتناسب مع جو السورة والقصة وشدتها.
فإذا كان ذلك كذلك، فكلمة الكبير تناسب جو السورة أكثر من كلمتي (عظيم) و(مبين)؛ إذ إن الراء فيها صفة الجهر وهي متوسطة في الشدة والتكرير يقابل القلقلة، على حين أن الميم وإن قاربت الراء في الأوليين إلا أنها تضعف عنها بالغنة، والنون مهموسة وليست مجهورة أصلا، وفيها ضعف الغنة أيضًا.
ولذا جاء الوصف بالكبر دون الوصفين الآخرين.
هذا ما تيسر لي في هذه العجالة ولو كان الحال غير حال الفتوى لأفضت فيه أكثر من ذلك.
هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر