(ت16) ما الفرق في الآيتين التاليتين؟ ولماذا اختلفت الصيغة؟ قوله تعالى:﴿‌فَلَا ‌تُعْجِبْكَ ‌أَمْوَالُهُمْ ‌وَلَا ‌أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[التوبة: 55]. وقوله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تُعْجِبْكَ ‌أَمْوَالُهُمْ ‌وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[التوبة: 85]. 

إذا نظرنا إلى نظم الآيتين سنجد عدة فروق بين الآية الأولى والثانية:
– الآية الأولى بدأت بحرف العطف الفاء (فلا)، على حين أن الثانية بدأت بحرف الواو (ولا).
– في الآية الأولى نجد أن عطف (أولادهم) وقع بـ(ولا) على حين أنّ الثانية اقتصرت على واو العطف.
– جاءت كلمة (يعذبهم) مسبوقة باللام في الأولى، على حين أنها جاءت مسبوقة ب (أن) في الثانية.
– وردت كلمة الحياة في الأولى، على حين أن الثانية جاءت خلوا منها.
أولا: اختلاف البداية بين الفاء والواو:
كي نعرف سبب هذا التنوع لا بد من الرجوع لسياق كل آية:
فالآية الأولى تتحدث عن الإنفاق وعن بخل المنافقين وإمساكهم عن البذل في سبيل الله، وقد قدم الله سبب ذلك في الآية التي تسبقها بقوله: ﴿‌وَمَا ‌مَنَعَهُمْ ‌أَنْ ‌تُقْبَلَ ‌مِنْهُمْ ‌نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾[التوبة: 54]، ولذلك عطف عليها الآية الثانية بالفاء التي تفيد السرعة، بمعنى لا تغتر بما عندهم ولا تؤمل فيه؛ لأن المنافق لا يكون منه خير بحال، وجاء النهي مصحوبًا بالفاء ليدل على سرعته وحتميته؛ لأن النفس تميل إلى المال وتؤمل فيه.
وذهب بعض المعربين إلى أن الفاء استئنافية (ابتدائية) وهنا يكون مجيء الفاء لتحدث المخالفة بينها وبين (ولا أولادهم) لئلا يكون تكرار، فلا يقول: ولا تعجبك.. ولا..) والمخالفة بين أحرف العطف من زيادة البيان.
أما الآية الثانية فجاءت في سياق القتال والحرب ونكوص المنافقين عن نصرة الدين، فجاءت مبدوءة بـ(ولا) لأن السياق السابق كان فيه عدة منهيات، وهذه الآية عطف على ما سبق، ففي الآية التي تسبقها نجد قوله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تُصَلِّ ‌عَلَى ‌أَحَدٍ ‌مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾[التوبة: 84]، وفيه نواهٍ هي: (ولا تصل)، (ولا تقم). فناسب أن يقول: (ولا تعجبك)، فيكون النهي عن الصلاة والقيام للدعاء والإعجاب بما عندهم (ولا تصل، ولا تقم، ولا تعجبك) فالعطف بالواو متسق هنا، ولو جاء بالفاء لنزل المعنى إذ سيكون النهي عن الإعجاب مترتبًا على عدم الصلاة والقيام وليس مطلقا؛ لأن الفاء تفيد الترتيب، وليس هذا هو المقصود، بل النهي عن الإعجاب واقع قبل الصلاة وبعدها.
ثانيا: تكرار (لا) في الآية الأولى وتركها في الثانية:
وهذا أيضا تابع لسياق الآيات:
فإذا نظرنا إلى الآية السابقة للآية الأولى نجد قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾[التوبة: 54] فجاء حرف الجر مكررًا، والقاعدة أنه إذا تكرر حرف الجر تكرر المعنى، فهناك فرق بين: مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد وبعمرو، ففي الجملة الأولى إنما هو مرور واحد وقع على الاثنين معا، أما في الثانية فهو مرور متعدد، فتكون قد مررت بزيد مرة ومررت بعمرو مرة أخرى، وليس بالضرورة أن يكونا معا، ومثله في الآية (كفروا بالله وبرسوله) فيكون وقع منهم كفر بالله بإظهار الإيمان وإضمار الكفر، وكفر بالرسول بإنكار بعثته ونبوته.
الأمر الثاني: أن هذه الآية فيها تفصيل في أنواع المخالفات؛ فكفر بالله وبرسوله، وتكاسل في الصلاة، وكره للإنفاق، فناسب هذا التفصيل تفصيل مثله في المنهيات وهي (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) فالتفصيل في المقدمة وافقه تفصيل في النتيجة.
الأمر الثالث: ناسب الفصل بـ(ولا) في الآية الأولى أن السياق يتحدث عن الإنفاق، والإنفاق مرتب بالمال ففصله عن الولد، أما في الآية الثانية فالسياق يتحدث عن الجهاد، والحاجة فيه تكون بالمال والرجال، فلذا جمع بينهما بلا فصل (أموالهم وأولادهم).
ثالثا: قوله في الآية الأولى (ليعذبهم) وفي الثانية (أن يعذبهم):
اللام في (ليعذبهم) هي لام التعليل، وهي تنصب الفعل بعدها سواء بنفسها أو بـ(أن) مقدَّرةً على خلاف بين النحاة، لكنها جاءت لتعليل ما يقع عليهم، على حين أنها لم تأت في الآية الثانية؛ وذلك لأن جريمتهم الموصوفة في السياق الأول كانت تخفى على جميع المؤمنين، إذ ليس فيها امتناع قطعيّ، فهم يصلون ولكنهم يتكاسلون وكأنهم مضطرون لذلك، وكذلك ينفقون ولكنهم مبغضون للإنفاق، كل ذلك مع كونهم يضمرون الكفر، ولا يجهرون بشيء من أفعالهم، فجاء السياق وفضحهم وقال: لأجل ذلك نعذبهم، من باب الإعلام بالعقوبة وبالسبب.
أما الآية الثانية فلم تحتج لأنهم امتنعوا عن القتال علانية ﴿وَقَالُوا ‌لَا ‌تَنْفِرُوا ‌فِي ‌الْحَرِّ ﴾[التوبة: 81]، فجاءت العقوبة علانية وبدون تعليل لتكافئ فعلهم، ويكون المعنى: إنما يريد الله تعذيبهم على هذا الفعل وهو ظاهر السبب لكم.
رابعًا: ذكر كلمة الحياة في الآية الأولى وعدم ذكرها في الآية الثانية:
هناك تناسب كذلك بين نظم الكلام في الآية الأولى وما سبقها يدعو لذكر كلمة الحياة هنا؛ لأن الكلام على المال والإنفاق، وهذا شأن الحياة، فنحن مع المال نقول: حياة سهلة، إذا كثر المال، وحياة صعبة، إذا قل المال، ولا نقول دنيا سهلة أو دنيا صعبة، بل نشير لما يعيشه الإنسان وهو الحياة، فيكون ما ظنوا أنه سبب سهولة الحياة، هو سبب التعذيب، فيجعل تفاصيل حياتهم شقاء.
أما في الآية الثانية فالكلام عن القتال والجهاد، والقتال قد يؤدي إلى الموت، والموت لا حياة معه، فلم يذكرها مناسبة للسبب والمسبب، فالحياة مع القتال مظنونة، فحسن حذفها من السياق.
هذا، والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر