هناك فرق في الاستعمال بين القراءة والتلاوة والترتيل والأداء، وهذا هو تفصيل القول في كلٍّ:
أولا القراءة:
هي النطق بكلام مكتوب، والفعل قرأ يقرأ، فهو قارئ، وهذا مقروء في المفعول.
كما أن القراءة تستعمل لمجرد تتبع الكلام المكتوب ولو بغير صوت، ومنه: قرأ الكتاب وإن لم يتلفظ.
هذا هو الأصل.
قال تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾[الإسراء: 13-14].
وقد تقع القراءة أيضا للمحفوظ، المقروء من الذاكرة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17-18]. وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]. وهذا مطلق فيما كانت القراءة من كتاب أو من الذاكرة.
ومنه حديث بدء الوحي: (فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ». قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ [العلق: 1-3]) [متفق عليه]. ولم يكن ثمة كتاب مع جبريل يقرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم.
والقراءة لفظ عام في كل مقروء سواء أكان قرآنا أم حديثًا، أم أي نص آخر، وسواء أكان بالعربية أم بغير العربية، وقد يستعمل مخصوصًا في قراءة القرآن، وهنا يشمل اللفظ المفرد، ويشمل التركيب، فمن قال: (ق) فقد قرأ وإن لم يصلها بغيرها، وكذلك هو قارئ للقرآن سواء أجاد فيه أم لم يجد.
وقد ورد لفظ القراءة عامًّا وخاصًّا في القرآن وفي السنة:
في القرآن:
في قراءة القرآن وَرَدَ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
وفي قراءة غيره من الكتب الأخرى المنزلة وَرَدَ: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94].
وفي قراءة كتاب يوم القيامة وَرَدَ: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [الإسراء: 71].
وفي طلب رسالة خاصة وَرَدَ: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93].
وفي السنة:
في قراءة القرآن نجد حديث عبد الله بن مغفل عند البخاري: (رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقْرَأُ وهو علَى نَاقَتِهِ أوْ جَمَلِهِ، وهي تَسِيرُ به، وهو يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ -أوْ مِن سُورَةِ الفَتْحِ- قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ وهو يُرَجِّعُ).
وفي قراءة نص ديني غير القرآن نجد حديث أبي هريرة عند البخاري عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خُفِّفَ علَى داوُدَ القِراءَةُ، فَكانَ يَأْمُرُ بدابَّتِهِ لِتُسْرَجَ، فَكانَ يَقْرَأُ قَبْلَ أنْ يَفْرُغَ».
وفي قراءة غير القرآن نجد حديث أبي سفيان عند البخاري: (أنَّ هرقل أرْسَلَ إلَيْهِ وهُمْ بإيلِيَاءَ، ثُمَّ دَعَا بكِتَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِن قِرَاءَةِ الكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، فَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وأُخْرِجْنَا فَقُلتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ).
وفي الإشارة إلى الحرف القرائي نجد حديث أبي الدرداء عند البخاري: (قَدِمَ أصْحَابُ عبدِ اللَّهِ علَى أبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ، فَقَالَ: أيُّكُمْ يَقْرَأُ علَى قِرَاءَةِ عبدِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلُّنَا، قَالَ: فأيُّكُمْ أحْفَظُ؟ فأشَارُوا إلى عَلْقَمَةَ …).
وفي الإشارة إلى طريقة الأداء، نجد حديث معاوية عند البخاري: (ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ، يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وقالَ: لَوْلَا أنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ علَيْكُم لَرَجَّعْتُ كما رَجَّعَ ابنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِي النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ لِمُعَاوِيَةَ: كيفَ كانَ تَرْجِيعُهُ؟ قالَ: آآآ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).
وورد لفظ القراء بمعنى العلماء والعباد من الصحابة كما في حديث أنس عند البخاري: (قَنَتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ، فَما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ منه).
أما القراءة في استعمال اللغة فهي واسعة وأسيرة لمعان متنوعة منها:
– قراءة الكتب.
– والقراءة بمعنى الملاحظة، كما في: قرأ علامات الغضب.
– وقرأ الشيء، أي: جمعه وضمه بعضه لبعض، ومنه لفظ (القرآن) لأنه مجموع.
– ومنه قراءة الغيب، أي: التكهن كما نقول: قرأ المستقبل.
– ومنه القراءة بمعنى الفهم، كما في: قرأ ما بين السطور.
– ومنه القراءة بمعنى الإبلاغ كما في: قرأ عليه السلام.
– ومنه القراءة بمعنى التعلم والدرس كما نقول: قرأ على فلان.
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم القراءة ليشمل الآتي:
١- قراءة تعني مطلق التتبع للمكتوب سواء كان باللفظ أو بالعين، وتكون من الكتاب وتكون من الذاكرة.
٢- القراءة تكون للنص الديني ولغيره.
٣- قراءة القرآن، تصدق على اللفظ المفرد وعلى الجملة.
٤- لفظ القارئ، قد يكون مخصوصًا بالقرآن، وقد يكون في غيره، وقد استعمل للإشارة للعباد والفقهاء.
٥- أن استعمالات القراءة في اللغة واسعة وفيها مجازات كثيرة.
٦- أن مطلق لفظ القراءة يصح على كل قراءة سواء كانت معربة مجودة أو غير ذلك، ولذلك نقول: هذه قراءة صحيحة وهذه خاطئة.
٧- أن لفظ القراءة استعمل في الإشارة إلى الروايات والأوجه القرائية، فنقول: هذه قراءة نافع، وهذه قراءة ابن كثير.
٨- القراءة تنسحب على جانبي الكم والكيف. فنقول: قرأت القرآن، وقرأت بعضه، وقرأت آية، وهي ألصق بالكم.
٩- القراءة عمل العامة والخاصة، ولذا ربط الله بها العبادات: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: 20].
ثانيا التلاوة:
هي قراءة النص متتابعًا، والفعل منه تلا يَتلُو، اتلُ، تِلاوَةً، فهو تالٍ، والمفعول مَتْلُوّ.
فالتتابع شرط في استعمال كلمة التلاوة، قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ [الشمس: 1-2].
وأكثر ما يستعمل اللفظ مع النصوص الدينية، سواء كانت إسلامية أو غيرها.
ففي تلاوة القرآن نجد قوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [العنكبوت: 45].
وفي التوراة ورد قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 44].
وفي الإنجيل ورد قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 113].
وفي قراءة جبريل ورد قوله تعالى: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ [هود: 17].
وفي وسوسة الشيطان ورد قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: 102].
أما استعمالات تلا في اللغة فهي متنوعة منها:
تلا بمعنى أخبر كما في: تلا الخبر.
وتلا بمعنى تأخر كما في: تلا بعد القوم.
وتلا بمعنى تبع كما في: تلا الرجل.
وتلا بمعنى تخلى كما في: تلا صاحبه.
وقد ذكر بعضهم أن كلمة التلاوة تدل على الاتباع والعمل أيضًا، واستدلوا بتفسير ابن مسعود لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121] قال: (والذي نفسي بيده؛ إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه، ولا يتأول شيئًا منه على غير تأويله). ومثله رووه عن قتادة.
وتلاوة القرآن تدل على قراءته متتابعًا منظومًا.
والمتأمل للسياق الذي وردت فيه كلمة (تلا) وما تصرف منها يجد أنها ارتبطت بأمور منها:
– القراءة المرتبطة بالفهم.
– القراءة المرتبطة بالعمل.
– الأحكام التطبيقية.
– موطن الوعظ والتذكير.
فمن القراءة المرتبطة بالفهم قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 58].
ومن القراءة المرتبطة بالعمل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121]. وقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101].
ومن الأحكام التطبيقية قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة: 1]. وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 151].
ومن الوعظ والتذكير قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ [المائدة: 27]. وقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ [الأعراف: 175]. وقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾ [يونس: 71].
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم التلاوة ليشمل الآتي:
١- التلاوة تدل على ما قرئ متتابعًا سواء كان آية، أو سورة، أو بعض سورة، ولا تكون في الكلمات المفردة.
٢- التلاوة في القرآن ارتبطت بموارد معينة منها الفهم والعمل والأحكام الشرعية والوعظ.
٣- التلاوة في القرآن ارتبطت بالأحكام القرائية: ﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121].
٤- التلاوة في سياقتها القرآنية تدل على تمهل وتدبر في مورد التلاوة، وهو مستفاد من طبيعة الفعل (تلا) الذي ينتهي بحرف المد مع ما فيه من طول يسمح بالتدبر.
٥- التلاوة بطبيعتها ومعناها ألصق بتنغيم القرآن الكريم صوتًا، لذات السبب الموجود في الفعل (تلا).
٦- التلاوة تنسحب على الكيف، فلا نقول: تلوت القرآن إشارة للختم الكمي، وإنما إشارة لفهمه ومعرفته.
٧- التلاوة عمل الخاصة، ولذلك هي عمل النبي وعمل العلماء الذين أوتوا علم الكتاب: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [العنكبوت: 45] ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ﴾ [البقرة: 121] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [فاطر: 29].
ثالثا الترتيل:
كلمة (ترتيل) من الفعل رتل يرتل ترتيلا، ورتل الشيء نسقه ونظمه، ورتل الكلام أحسن تأليفه، وأحسن تلاوته، ورتل القرآن أحسن وجَوَّد تلاوته، ومنه تسمية القارئ مرتلا؛ لأنه يتأنق في القراءة ولا يعجل.
وقد ورد لفظ الترتيل في القرآن في موضعين:
﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4].
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32].
أما في اللغة فنجد أن الفعل (رتل) يدل على النظام والصف، ومنه قولنا: رتل الجنود، ورتل السيارات، إذا كان كل واحد خلف الآخر في صفوف.
وإذا نظرنا لموارد كلمة ترتيل في القرآن نجد أنها وردت في سياقين:
الأول: سياق القراءة المرتبطة بالعبادة ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2].
الثاني: سياق التنزيل ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾.
فإذا ربطنا هذا مع طبيعة كلمة (رتل) التي تدل على الترتيب والتنسيق والتحسين، تبين أن المقصود من الترتيل في السياق القرآني: هو القراءة المجودة التي تراعي التنسيق بين المقروء من حيث الوظيفة والمعنى ومن حيث الموضوع.
فمن جمع آيات المواريث في نسق واحد وإن اختلفت السور فهو مرتل.
ومن جمع قصة الخلق والتكوين في نسق واحد فهو مرتل، وهكذا.
ومن قرأ القرآن الكريم على قسمة الأرباع والأحزاب والأجزاء فهو مرتل، لأنه اتبع نسقًا.
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم الترتيل بالآتي:
١- قراءة القرآن المرتبط بالعبادة كقراءة الصلاة والخطب.
٢- الفهم المترتب على التدبر (تجويد الحروف ومعرفة الوقوف).
٣- القراءة المرتبطة بالموضوع الواحد.
٤- اتباع قسمة القرآن لأرباع وأجزاء.
٥- الترتيل هو أداة الموازنة بين النصوص وهو مادة الاستنباط ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: 33].
٦- الترتيل يناسب المواقف الصعبة والملمات التي تحتاج لتثبيت.
٧- الترتيل يناسب التفسير الموضوعي، ويناسب الجدل القائم على الحكمة.
٨- الترتيل هو عمل الخاصة لما فيه من المعاني السابقة، بخلاف القراءة التي هي عمل العامة والخاصة. لذا نجد أن لفظ الترتيل في أول سورة المزمل ارتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ القراءة في آخرها كان عامًّا في الجميع.
رابعًا الأداء:
الأداء من الفعل أدّى ومصدره تأدية، وأدى الشيء قام به وأتمه.
ومنه: أدى الواجب، أي: قام به.
وأدى الدين، أي: قضاه.
وأدى الصلاة، أي: قام بها على ما تجب.
وأدى الزكاة، دفعها لمستحقيها.
وأدى اليمين، حلفه في محضر الشهادة والواجب.
ومنه قوله تعالى: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283]. وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: 75].
ومن معاني الأداء أيضا: الاستماع والاتباع ومنه قوله تعالى: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ﴾ [الدخان: 18]. أي: استمعوا واتبعوا.
والأداء في القراءة ينصرف إلى أمور:
الأول: هو العرض والنقل بالرواية.
الثاني: طريقة القراءة.
الثالث: القياس والتفريع.
فمن الأول قول ابن مجاهد في بعض أنواع القراء: (ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه، ليس عنده إلا الأداء لما تعلم؛ لا يعرف الإعراب ولا غيره). ومنه قول أبي شامة: (ولفظة الأداء كثيرة الاستعمال بين القراء، ويعنون بها تأديةَ القراءِ القراءةَ إلينا بالنقل عمن قبلهم).
ومن الثاني قول الزبيدي: (هو حَسَن الأداءِ إذا كانَ حَسَن إخْراج الحُرُوفِ مِن مَخارِجِها).
ومنه تسمية القراء أهل الأداء كما قال الشاطبي:
تَخَيَّرَهُ أَهْلُ الأَدَاءِ مُعَلَّلَا
ومن الثالث قول ابن الجزري: (فإنه إذا ثبت أن شيئًا من القراءات من قبيل الأداء لم يكن متواترًا عن النبي، كتقسيم وقف حمزة وهشام وأنواع تسهيله؛ فإنه وإن تواتر تخفيف الهمز في الوقف عن رسول الله فلم يتواتر أنه وقف على موضع بخمسين وجهًا, ولا بعشرين, ولا بنحو ذلك, وإنما إن صح شيء منها فوجه, والباقي لا شك أنه من قبيل الأداء).
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم الأداء ليشمل الآتي:
١- مجرد النقل عن الشيوخ.
٢- الأوجه التي تولدت بالقياس في مقابل المنقول بالتواتر.
٣- طريقة القراءة فيدخل فيها أنواع القراءة المشهورة كالتحقيق والحدر وما بينهما.
٤- القراءة بالألحان، فهي من قبيل الأداء، لأنه يتعلق بالتحسين المندوب.
٥- عمل القارئ هو من قبيل الأداء وذلك كرفع الصوت، أو خفضه، والمناسبة بين المعنى والمقام النغمي.
المفتي: د خالد نصر
أولا القراءة:
هي النطق بكلام مكتوب، والفعل قرأ يقرأ، فهو قارئ، وهذا مقروء في المفعول.
كما أن القراءة تستعمل لمجرد تتبع الكلام المكتوب ولو بغير صوت، ومنه: قرأ الكتاب وإن لم يتلفظ.
هذا هو الأصل.
قال تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾[الإسراء: 13-14].
وقد تقع القراءة أيضا للمحفوظ، المقروء من الذاكرة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17-18]. وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]. وهذا مطلق فيما كانت القراءة من كتاب أو من الذاكرة.
ومنه حديث بدء الوحي: (فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ». قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ [العلق: 1-3]) [متفق عليه]. ولم يكن ثمة كتاب مع جبريل يقرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم.
والقراءة لفظ عام في كل مقروء سواء أكان قرآنا أم حديثًا، أم أي نص آخر، وسواء أكان بالعربية أم بغير العربية، وقد يستعمل مخصوصًا في قراءة القرآن، وهنا يشمل اللفظ المفرد، ويشمل التركيب، فمن قال: (ق) فقد قرأ وإن لم يصلها بغيرها، وكذلك هو قارئ للقرآن سواء أجاد فيه أم لم يجد.
وقد ورد لفظ القراءة عامًّا وخاصًّا في القرآن وفي السنة:
في القرآن:
في قراءة القرآن وَرَدَ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
وفي قراءة غيره من الكتب الأخرى المنزلة وَرَدَ: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94].
وفي قراءة كتاب يوم القيامة وَرَدَ: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [الإسراء: 71].
وفي طلب رسالة خاصة وَرَدَ: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93].
وفي السنة:
في قراءة القرآن نجد حديث عبد الله بن مغفل عند البخاري: (رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقْرَأُ وهو علَى نَاقَتِهِ أوْ جَمَلِهِ، وهي تَسِيرُ به، وهو يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ -أوْ مِن سُورَةِ الفَتْحِ- قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ وهو يُرَجِّعُ).
وفي قراءة نص ديني غير القرآن نجد حديث أبي هريرة عند البخاري عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خُفِّفَ علَى داوُدَ القِراءَةُ، فَكانَ يَأْمُرُ بدابَّتِهِ لِتُسْرَجَ، فَكانَ يَقْرَأُ قَبْلَ أنْ يَفْرُغَ».
وفي قراءة غير القرآن نجد حديث أبي سفيان عند البخاري: (أنَّ هرقل أرْسَلَ إلَيْهِ وهُمْ بإيلِيَاءَ، ثُمَّ دَعَا بكِتَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِن قِرَاءَةِ الكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، فَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وأُخْرِجْنَا فَقُلتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ).
وفي الإشارة إلى الحرف القرائي نجد حديث أبي الدرداء عند البخاري: (قَدِمَ أصْحَابُ عبدِ اللَّهِ علَى أبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ، فَقَالَ: أيُّكُمْ يَقْرَأُ علَى قِرَاءَةِ عبدِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلُّنَا، قَالَ: فأيُّكُمْ أحْفَظُ؟ فأشَارُوا إلى عَلْقَمَةَ …).
وفي الإشارة إلى طريقة الأداء، نجد حديث معاوية عند البخاري: (ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ، يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وقالَ: لَوْلَا أنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ علَيْكُم لَرَجَّعْتُ كما رَجَّعَ ابنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِي النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ لِمُعَاوِيَةَ: كيفَ كانَ تَرْجِيعُهُ؟ قالَ: آآآ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).
وورد لفظ القراء بمعنى العلماء والعباد من الصحابة كما في حديث أنس عند البخاري: (قَنَتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ، فَما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ منه).
أما القراءة في استعمال اللغة فهي واسعة وأسيرة لمعان متنوعة منها:
– قراءة الكتب.
– والقراءة بمعنى الملاحظة، كما في: قرأ علامات الغضب.
– وقرأ الشيء، أي: جمعه وضمه بعضه لبعض، ومنه لفظ (القرآن) لأنه مجموع.
– ومنه قراءة الغيب، أي: التكهن كما نقول: قرأ المستقبل.
– ومنه القراءة بمعنى الفهم، كما في: قرأ ما بين السطور.
– ومنه القراءة بمعنى الإبلاغ كما في: قرأ عليه السلام.
– ومنه القراءة بمعنى التعلم والدرس كما نقول: قرأ على فلان.
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم القراءة ليشمل الآتي:
١- قراءة تعني مطلق التتبع للمكتوب سواء كان باللفظ أو بالعين، وتكون من الكتاب وتكون من الذاكرة.
٢- القراءة تكون للنص الديني ولغيره.
٣- قراءة القرآن، تصدق على اللفظ المفرد وعلى الجملة.
٤- لفظ القارئ، قد يكون مخصوصًا بالقرآن، وقد يكون في غيره، وقد استعمل للإشارة للعباد والفقهاء.
٥- أن استعمالات القراءة في اللغة واسعة وفيها مجازات كثيرة.
٦- أن مطلق لفظ القراءة يصح على كل قراءة سواء كانت معربة مجودة أو غير ذلك، ولذلك نقول: هذه قراءة صحيحة وهذه خاطئة.
٧- أن لفظ القراءة استعمل في الإشارة إلى الروايات والأوجه القرائية، فنقول: هذه قراءة نافع، وهذه قراءة ابن كثير.
٨- القراءة تنسحب على جانبي الكم والكيف. فنقول: قرأت القرآن، وقرأت بعضه، وقرأت آية، وهي ألصق بالكم.
٩- القراءة عمل العامة والخاصة، ولذا ربط الله بها العبادات: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: 20].
ثانيا التلاوة:
هي قراءة النص متتابعًا، والفعل منه تلا يَتلُو، اتلُ، تِلاوَةً، فهو تالٍ، والمفعول مَتْلُوّ.
فالتتابع شرط في استعمال كلمة التلاوة، قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ [الشمس: 1-2].
وأكثر ما يستعمل اللفظ مع النصوص الدينية، سواء كانت إسلامية أو غيرها.
ففي تلاوة القرآن نجد قوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [العنكبوت: 45].
وفي التوراة ورد قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 44].
وفي الإنجيل ورد قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 113].
وفي قراءة جبريل ورد قوله تعالى: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ [هود: 17].
وفي وسوسة الشيطان ورد قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: 102].
أما استعمالات تلا في اللغة فهي متنوعة منها:
تلا بمعنى أخبر كما في: تلا الخبر.
وتلا بمعنى تأخر كما في: تلا بعد القوم.
وتلا بمعنى تبع كما في: تلا الرجل.
وتلا بمعنى تخلى كما في: تلا صاحبه.
وقد ذكر بعضهم أن كلمة التلاوة تدل على الاتباع والعمل أيضًا، واستدلوا بتفسير ابن مسعود لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121] قال: (والذي نفسي بيده؛ إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه، ولا يتأول شيئًا منه على غير تأويله). ومثله رووه عن قتادة.
وتلاوة القرآن تدل على قراءته متتابعًا منظومًا.
والمتأمل للسياق الذي وردت فيه كلمة (تلا) وما تصرف منها يجد أنها ارتبطت بأمور منها:
– القراءة المرتبطة بالفهم.
– القراءة المرتبطة بالعمل.
– الأحكام التطبيقية.
– موطن الوعظ والتذكير.
فمن القراءة المرتبطة بالفهم قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 58].
ومن القراءة المرتبطة بالعمل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121]. وقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101].
ومن الأحكام التطبيقية قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة: 1]. وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 151].
ومن الوعظ والتذكير قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ [المائدة: 27]. وقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ [الأعراف: 175]. وقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾ [يونس: 71].
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم التلاوة ليشمل الآتي:
١- التلاوة تدل على ما قرئ متتابعًا سواء كان آية، أو سورة، أو بعض سورة، ولا تكون في الكلمات المفردة.
٢- التلاوة في القرآن ارتبطت بموارد معينة منها الفهم والعمل والأحكام الشرعية والوعظ.
٣- التلاوة في القرآن ارتبطت بالأحكام القرائية: ﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121].
٤- التلاوة في سياقتها القرآنية تدل على تمهل وتدبر في مورد التلاوة، وهو مستفاد من طبيعة الفعل (تلا) الذي ينتهي بحرف المد مع ما فيه من طول يسمح بالتدبر.
٥- التلاوة بطبيعتها ومعناها ألصق بتنغيم القرآن الكريم صوتًا، لذات السبب الموجود في الفعل (تلا).
٦- التلاوة تنسحب على الكيف، فلا نقول: تلوت القرآن إشارة للختم الكمي، وإنما إشارة لفهمه ومعرفته.
٧- التلاوة عمل الخاصة، ولذلك هي عمل النبي وعمل العلماء الذين أوتوا علم الكتاب: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [العنكبوت: 45] ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ﴾ [البقرة: 121] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [فاطر: 29].
ثالثا الترتيل:
كلمة (ترتيل) من الفعل رتل يرتل ترتيلا، ورتل الشيء نسقه ونظمه، ورتل الكلام أحسن تأليفه، وأحسن تلاوته، ورتل القرآن أحسن وجَوَّد تلاوته، ومنه تسمية القارئ مرتلا؛ لأنه يتأنق في القراءة ولا يعجل.
وقد ورد لفظ الترتيل في القرآن في موضعين:
﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4].
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32].
أما في اللغة فنجد أن الفعل (رتل) يدل على النظام والصف، ومنه قولنا: رتل الجنود، ورتل السيارات، إذا كان كل واحد خلف الآخر في صفوف.
وإذا نظرنا لموارد كلمة ترتيل في القرآن نجد أنها وردت في سياقين:
الأول: سياق القراءة المرتبطة بالعبادة ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2].
الثاني: سياق التنزيل ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾.
فإذا ربطنا هذا مع طبيعة كلمة (رتل) التي تدل على الترتيب والتنسيق والتحسين، تبين أن المقصود من الترتيل في السياق القرآني: هو القراءة المجودة التي تراعي التنسيق بين المقروء من حيث الوظيفة والمعنى ومن حيث الموضوع.
فمن جمع آيات المواريث في نسق واحد وإن اختلفت السور فهو مرتل.
ومن جمع قصة الخلق والتكوين في نسق واحد فهو مرتل، وهكذا.
ومن قرأ القرآن الكريم على قسمة الأرباع والأحزاب والأجزاء فهو مرتل، لأنه اتبع نسقًا.
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم الترتيل بالآتي:
١- قراءة القرآن المرتبط بالعبادة كقراءة الصلاة والخطب.
٢- الفهم المترتب على التدبر (تجويد الحروف ومعرفة الوقوف).
٣- القراءة المرتبطة بالموضوع الواحد.
٤- اتباع قسمة القرآن لأرباع وأجزاء.
٥- الترتيل هو أداة الموازنة بين النصوص وهو مادة الاستنباط ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: 33].
٦- الترتيل يناسب المواقف الصعبة والملمات التي تحتاج لتثبيت.
٧- الترتيل يناسب التفسير الموضوعي، ويناسب الجدل القائم على الحكمة.
٨- الترتيل هو عمل الخاصة لما فيه من المعاني السابقة، بخلاف القراءة التي هي عمل العامة والخاصة. لذا نجد أن لفظ الترتيل في أول سورة المزمل ارتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ القراءة في آخرها كان عامًّا في الجميع.
رابعًا الأداء:
الأداء من الفعل أدّى ومصدره تأدية، وأدى الشيء قام به وأتمه.
ومنه: أدى الواجب، أي: قام به.
وأدى الدين، أي: قضاه.
وأدى الصلاة، أي: قام بها على ما تجب.
وأدى الزكاة، دفعها لمستحقيها.
وأدى اليمين، حلفه في محضر الشهادة والواجب.
ومنه قوله تعالى: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283]. وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: 75].
ومن معاني الأداء أيضا: الاستماع والاتباع ومنه قوله تعالى: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ﴾ [الدخان: 18]. أي: استمعوا واتبعوا.
والأداء في القراءة ينصرف إلى أمور:
الأول: هو العرض والنقل بالرواية.
الثاني: طريقة القراءة.
الثالث: القياس والتفريع.
فمن الأول قول ابن مجاهد في بعض أنواع القراء: (ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه، ليس عنده إلا الأداء لما تعلم؛ لا يعرف الإعراب ولا غيره). ومنه قول أبي شامة: (ولفظة الأداء كثيرة الاستعمال بين القراء، ويعنون بها تأديةَ القراءِ القراءةَ إلينا بالنقل عمن قبلهم).
ومن الثاني قول الزبيدي: (هو حَسَن الأداءِ إذا كانَ حَسَن إخْراج الحُرُوفِ مِن مَخارِجِها).
ومنه تسمية القراء أهل الأداء كما قال الشاطبي:
تَخَيَّرَهُ أَهْلُ الأَدَاءِ مُعَلَّلَا
ومن الثالث قول ابن الجزري: (فإنه إذا ثبت أن شيئًا من القراءات من قبيل الأداء لم يكن متواترًا عن النبي، كتقسيم وقف حمزة وهشام وأنواع تسهيله؛ فإنه وإن تواتر تخفيف الهمز في الوقف عن رسول الله فلم يتواتر أنه وقف على موضع بخمسين وجهًا, ولا بعشرين, ولا بنحو ذلك, وإنما إن صح شيء منها فوجه, والباقي لا شك أنه من قبيل الأداء).
وعلى ذلك نستطيع أن نحدد مفهوم الأداء ليشمل الآتي:
١- مجرد النقل عن الشيوخ.
٢- الأوجه التي تولدت بالقياس في مقابل المنقول بالتواتر.
٣- طريقة القراءة فيدخل فيها أنواع القراءة المشهورة كالتحقيق والحدر وما بينهما.
٤- القراءة بالألحان، فهي من قبيل الأداء، لأنه يتعلق بالتحسين المندوب.
٥- عمل القارئ هو من قبيل الأداء وذلك كرفع الصوت، أو خفضه، والمناسبة بين المعنى والمقام النغمي.
المفتي: د خالد نصر