(ت19) هناك فيديو ينشره البعض مضمونه يشكك في تفسير الجمهور لقوله تعالى: ﴿‌إِلَّا ‌تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 40]، ويزعم صاحب الفيديو أن المقصود بصاحبه هنا هو ابن أريقط وليس سيدنا أبا بكر رضي الله عنه، واستدل لذلك بأمور منها: 1- إفراد الضمير في قوله: (تنصروه، أخرجه، عليه، وأيده). 2- دلالة (ثاني اثنين). 3- قوله: (لا تحزن). فما رأي سيادتكم في هذا؟

هذا الكلام لا سيما مع هذا الأسلوب يدلان على جهل مركب.
وفي عجالة:
١- القول بوجوب اتحاد الضمائر في الدلالة، فإذا كانت للمفرد تنصرف لمفرد واحد، جهل بطريقة سياقات اللغة العربية ونظم القرآن.
فقد يكون المشار إليه جمعًا وتستعمل اللغة له لفظ المفرد كما في قوله تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا ‌إِنَّا ‌رَسُولُ ‌رَبِّ ‌الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 16] فقد عبر عن موسى وهارون بلفظ (رسول) وهو مفرد.
وقد يكون المقصود مفردا ويعبر عنه بلفظ الجمع كما في قوله تعالى: ﴿‌إِنَّا ‌أَعْطَيْنَاكَ ‌الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]. والمعطي هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، ولا يقول عاقل أن المقصود هنا أكثر من واحد.
ومن ذلك أيضا التعبير بالجمع عن الاثنين، ومنه قوله تعالى: ﴿‌وَمَا ‌كَانَ ‌لِمُؤْمِنٍ ‌وَلَا ‌مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36] فعبر عن المؤمن والمؤمنة بالضمير (هم) مرتين (لهم، أمرهم) مع وجود ضمير يعبر عن الاثنين وهو (هما).
ومن الشعر العربي نجد هذه المزاوجة:
بِأَيِّ نَوَاحِي الأَرْضِ أَبْغِي وِصَالَكُمْ … وَأَنْتُمْ مُلُوْكٌ مَا لِمَقْصَدِكُمْ نَحْوُ
مع أن المخاطب مفرد وعبر عنه بلفظ (وأنتم).
ونظائر ذلك في القرآن والشعر لا تعد.
أما لماذا استعمل لفظ الإفراد في قوله: (تنصروه، نصره، أخرجه) لأن المقصود بالأمر كان النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأبه الكفار بإخراج أبي بكر أو عثمان أو علي أو أي من الصحابة؛ لأنهم أتباع، ومع وجود الأصل لا يخاطب بالفرع.
فلو قدر أن قتل النبي عليه الصلاة السلام في هذه المرحلة لمات الإسلام معه؛ إذ كانت مرحلة دعوة وليست أمة بعد.
وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿‌وَإِذْ ‌يَمْكُرُ ‌بِكَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال: 30]. فالمقصود بالفعل هو النبي صلى الله عليه وسلم، لا أبو بكر أو غيره.
هذا أمر، والثاني أن نصرة الله هي نصرة للمؤمنين، ونصرة النبي هي نصرة للمؤمنين، فإذا كان نصر التابع يقع بنصرة المتبوع فليس من البلاغة ذكر المتبوع، كما أن نصرة النبي تقع بوجوه لا يستحقها غيره، ويؤيده ما عطفه الله من ذكر المعجزات التي صرفت عنه حملة الكفار.
٢- أما قول المتحدث: (لا يجب أن يقال: ثاني اثنين، للنبي ويقصد أن ذكره بالثاني فيه تقليل من شأنه.
فهذا جهل مركب أيضًا، وعدم فهم لمخرجات اللغة.
فقد ذكر القرآن كلمة النصارى أن الله ثالث ثالثة: ﴿‌لَقَدْ ‌كَفَرَ ‌الَّذِينَ ‌قَالُوا ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌ثَالِثُ ‌ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: 73]، مع أن النصارى يقدمون الأب والرب على الابن والروح القدس فيقولون: بسم الأب والابن والروح القدس، فعبر القرآن عن ذلك بقوله: قالوا ثالث ثلاثة، والمعنى واحد من ثلاثة.
ولا يقال: أول اثنين إذا كنا نقصد العدد، بل ثاني اثنين، وإذا أردنا أن نخصص المفرد نقول: أحد اثنين، أو أحد ثلاثة.
أما ثاني اثنين معناها أحد اثنين، ثالث ثلاثة معناها أحد ثلاثة، رابع أربعة أحد أربعة، وهكذا، ولا دخل لها بالقيمة والمقام، فنقول: جاء الرئيس للاجتماع ثاني اثنين، أي هو ونائبه أو مساعده، ولا يقال: أول اثنين، ولو قصد تمييزه نقول: أحد اثنين.
أما وقد جاءت الآية بقوله: (ثاني اثنين) فلا تدل بحال على ترتيب المكانة بل على مطلق العدد.
٣- تعليقه على قوله: (لا تحزن) وأن الأصل أن يقول: لا تخف إذا كان المقصود أبا بكر …
فهذا جهل آخر بمصارف مفردات اللغة .
فكما أن كلمة الحزن تأتي بمعنى الألم والغم والهم، تأتي أيضا بمعنى الخوف، ومنه قوله تعالى: ﴿‌وَقَالُوا ‌الْحَمْدُ ‌لِلَّهِ ‌الَّذِي ‌أَذْهَبَ ‌عَنَّا ‌الْحَزَنَ ﴾ [فاطر: 34]، أي الخوف، فيوم القيامة في أصله وأحداثه يوم خوف لا يوم كآبة.
ومنه قوله تعالى: ﴿‌فَنَادَاهَا ‌مِنْ ‌تَحْتِهَا ‌أَلَّا ‌تَحْزَنِي﴾ [مريم: 24]، وكان قد أصابها الخوف مما ستلاقي من بني إسرائيل ومن الفضيحة إذ أنجبت بلا زواج أو زوج، ولذا لما زال عنها الخوف ﴿أَتَتْ ‌بِهِ ‌قَوْمَهَا ‌تَحْمِلُهُ﴾ [مريم: 27]، وكان في مقدورها أن تهرب ولا يعلم عنها أحد، كما فعلت من بعد.
فقوله: (لا تحزن) أي لا تخف، ولكن السؤال: لماذا لم يقل لا تخف؟
والإجابة أن الفعل (تحزن) أكثر تعبيرًا من (لا تخف) هنا؛ إذ إنه يدل على الفعل وسبب الفعل، فحزن سيدنا أبي بكر الذي هو خوفه لم يكن على نفسه، بل على حضرة النبي الأعظم وعلى الرسالة وعلى حال الدعوة الجديدة، وعلى صديق عمره، كل ذلك يجعل من خوفه حزنًا، فطمأنه النبي بقوله: (لا تحزن)، فإذا وقع في قلبه طمأنينة ذهب بها الخوف والغم معا، فيكون قد ضمن العاقبة، بخلاف (لا تخف) التي ترفع الخوف ولا تضمن العاقبة.
ومثل ذلك نجده في قوله تعالى لسيدنا موسى: ﴿‌لَا ‌تَخَفْ ﴾ [طه: 68]، فهذا يزيل عنه الخوف، ولكنه احتاج للظهور على عدوه فقال له بعد ذلك: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾ [طه: 68] ، ومنه كذلك قول الخصمان لداود: ﴿‌لَا ‌تَخَفْ ﴾ [ص: 22] يرفع الخوف ولا يضمن العاقبة حتى بينا أنهما خصمان لا متعديان.
٤- قوله تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]، يدل على عكس ما ذهب إليه المتحدث؛ فالمعية على نوعين:
معية علم وإحاطة وهذه تكون للجميع؛ المسلم والكافر، قال تعالى: ﴿‌وَهُوَ ‌مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4].
ومعية حفظ ورعاية وعناية، وهذه لا تكون إلا لمن آمن بالله، قال تعالى في حق موسى وهارون: ﴿‌لَا ‌تَخَافَا ‌إِنَّنِي ‌مَعَكُمَا ‌أَسْمَعُ ‌وَأَرَى﴾ [طه: 46]، فلا بد أن يكون قد ضمن لهما الحفظ في مواجهة فرعون لا مجرد العلم، وإلا لما زال الخوف.
ومنه قوله تعالى: ﴿‌وَاللَّهُ ‌مَعَكُمْ ‌وَلَنْ ‌يَتِرَكُمْ ‌أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35]، وهو خطاب للمؤمنين المجاهدين.
فقوله: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌مَعَنَا ﴾ يدل على أن المعية معية حفظ ورعاية وعناية، وهذه لا تقع إلا للمؤمنين، وابن أريقط الليثي لم يكن ثمة من المؤمنين، بل إن النووي ذكر أنه مات على الجاهلية، فيبعد أن يدخل في معية الحفظ.
المفتي: د خالد نصر