(ت23) ذكرتُ في إحدى الخطب حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِي. قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: لاَ إِلاَّ مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ. فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ -قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَصُّ إِصْبَعَهُ- ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ» فجاءني من يسأل عن الطفل الذي خاطب أمه في قصة أصحاب الأخدود، لماذا لم يذكر في الحديث؟ فما تعليقكم؟

أولا: اختلف الرواة والعلماء في عدد من تكلم في المهد بين مضيق وحاصر وبين متوسع:
– فقد ورد أنهم ثلاثة كما في الرواية التي جاءت في أول السؤال.
– وزاد مسلم حادثة طفل الأخدود كما في حديثه عن صهيب وفيه: «حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ».
– وذكر البعض أنهم سبعة ومنهم الإمام بدر الدين العيني في شرحه على البخاري حيث قال: (فقد تكلم من الأطفال سبعة منهم شاهد يوسف رواه أحمد والبزار والحاكم وابن حبان من حديث ابن عباس: لم يتكلم في المهد إلا أربعة فذكر منها شاهد يوسف، ومنهم الصبي الرضيع الذي قال لأمه وهي ماشطة بنت فرعون لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار: اصبري يا أماه فإنك على الحق. أخرج الحاكم نحوه من حديث أبي هريرة، ومنهم الصبي الرضيع في قصة أصحاب الأخدود أن امرأة جيء بها لتلقى في النار فتقاعست فقال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق، ومنهم يحيى: أخرج الثعلبي في تفسيره عن الضحاك أن يحيى تكلم في المهد) فذكر الأربعة وزاد عليهم يحيى بن زكريا عليهما السلام، والشاهد الذي شهد على براءة سيدنا يوسف، وطفل ماشطة فرعون.
– وزاد بعضهم على ذلك فجعلهم عشرة بزيادة سيدنا إبراهيم وسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، ومبارك اليمامة وقصته رواها البيهقي وغيره، وفيها عن معرض اليمامي، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارًا بمكة فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجهه مثل دارة القمر ورأيت منه عجبا، جاءه رجل بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام من أنا؟» فقال: أنت رسول الله. قال: «صدقت، بارك الله فيك». قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعد حتى شب فكنا نسميه مبارك اليمامة.
ثانيا: من جهة الرواية نجد أن نصوص الصحاح ذكرت أربعة.
وذكر شاهد سيدنا يوسف أحمد والبزار والحاكم وابن حبان من حديث ابن عباس.
وكلام يحيى في المهد أخرجه الثعلبي في تفسيره عن الضحاك.
ومتكلم ماشطة فرعون وردت به الرواية عند أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم في “المستدرك”.
وكلام سيدنا إبراهيم في المهد ذكره البغوي في تفسيره.
وكلام سيدنا النبي في المهد ذكره الواقدي وغيره.
وكلام المبارك اليماني ذكره البيهقي وغيره.
أما المتفق على صحته في هذه الروايات فأربعة هم:
عيسى بن مريم عليه السلام.
ورضيع قصة جريج.
وطفل الأخدود.
وطفل قصة الراكب.
والباقي فيه خلاف بين العلماء في ثبوت وقوعه بالوصف المذكور أو وقوعه على وصف آخر.
ثالثا: وبغض النظر عن الحالات المختلف فيها فيمكن التوفيق بين الحالات الأربع الثابتة:
وذلك أن الحصر كما يقع للتحديد يقع للتنبيه والأهمية، وحال وقوعه للتنبيه والأهمية لا يكون منه عين المحصور، بل المبالغة فيما جاء له الحصر ولذلك نظائر منها:
– قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد…» ومع ذلك فقد كان يشد الرحال لمسجد قباء ويزوره كل سبت ويصلي فيه، بل ودعانا لشد الرحال إليه والصلاة فيه، وجعل لذلك ثوابًا خاصًّا كما في حديث: «صلاة في مسجد قباء تعدل عمرة». [رواه أحمد والترمذي وصححه السيوطي].
وما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء يعني كل سبت، كان يأتيه راكبا وماشيا.
ويكون المعنى في الحصر هو لتقديم الأهمية، وأنه لا يتساوى مع هذه المساجد غيرها من المساجد؛ المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، حتى وإن جاز شد الرحال لغيرها فلا يساويها في الثواب ولا في القيمة، ويكون المعنى: لا تشد الرحال لمسجد أفضل من المساجد الثلاثة.
– ومن ذلك قول أنس رضي الله عنه فيما رواه قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
فقوله: (أربعة) لا يعد حصرًا لأن العدد لا مفهوم له كما في علم الأصول، بمعنى أن العدد لا يمنع من دخول غير الأربعة، فقد جاء على جهة الثناء عليهم، وإن لم ينفه عن غيرهم، أو أنه قصد من جمعه من الأنصار أو من الخزرج خاصة، ودليل ذلك أن العشرات قد وعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم الخلفاء الأربعة.
– ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في مسجده» فإنه ليس بصدد بيان نفي نوع الصلاة عن جار المسجد وليس حكم عدم الصلاة منحصرًا بعدم المسجدية لصحة الصلاة في البيت، وذلك لوجود قرينة مستفادة من الأخبار تدل على ذلك, فالجملة الاستثنائية لم تستعمل هنا في العقد الإيجابي ولا السلبي. وإنما لبيان الأفضلية للصلاة في المسجد.
ومنه قولنا: (لا كسب إلا بالعمل) مع أن الكسب قد يقع بالمنحة وبالميراث وبالزكاة وغيرها، ولكنه في باب القيمة يكون بالعمل .
وتطبيقا لهذا على الحديث تكون الرواية الأولى التي اقتصرت على الثلاثة لبيان الأهمية؛ لأن الأولى إشارة لمعجزة عظيمة، والثانية في باب الشهادة، والثالثة في باب تقحم الغيب والرضا بالمقسوم.
وأيضا يحتمل أن مقصود سيدنا النبي بكلمة (المهد) أوله ويكون التقدير: لم يتكلم في أول المهد …
أما صاحب الأخدود فقد وردت بعض الروايات أنه كان ابن سبعة أشهر، على حين تكلم الآخرون وهم أبناء أيام.
هذا، والقاعدة أن الجمع بين النصوص وإعمال الجميع هو المقدم في حالة ظهور التعارض وقد بيناه.
المفتي: د خالد نصر