(ت3) الآية: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [الزخرف: 3] والآية: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) [الرعد: 37] أرجو التوضيح ما المقصود بـ(حُكْمًا عَرَبِيًّا) وهل هناك تعارض بين هذه الآيات؟

أقول وبالله التوفيق: آية سورة الزخرف واضحة في أن القرآن صيّره الله عربيًّا ليفهم القارئ والسامع، وكذلك فيه إشارة إلى أن تمام الفهم لا يقع إلا لصاحب اللسان العربي. لكن السؤال هنا: لماذا قال: (جعلناه) ولَم يقل: (أنزلناه). كما في باقي الآيات لا سيما أن كلمة (جعل) تحتمل معنى (خَلَقَ) وهو ما ذهب إليه كثير من المعتزلة والمرجئة أن القرآن كلام الله مخلوق؟
وأقول: إن الفعل (جعل) يأتي في القرآن على معانٍ:
١- جعل بمعنى (قال) كما في قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [فصلت: 9] أي: تقولون وتزعمون أن له أندادا.
٢- جعل بمعنى وصف ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) [الأنعام: 100] أي: هذا وصفهم.
٣- جعل بمعنى صيّر وحوّل كما في قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59] أي: صيرتم وصرفتم.
٤- جعل بمعنى سمّى ولقّب كما في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143].
٥- جعل بمعنى خلق كما في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) [الأنعام: 1] أي: خلقها.
والآية التي في سورة الزخرف معناها: أنزلناه وصيرناه، وذلك لأنها وردت صريحة في آيات أخرى كثيرة منها: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1]، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان: 3]. وغيرها الكثير والقرآن يفسر بعضه بعضا.
أما لماذا ذكر كلمة (جعل) في هذه السورة خاصة؟
أقول: لتتوافق مع ما ذكر في أثناء السورة من استعمال كلمة (جعل) مرارا وذلك مثل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الزخرف: ١٠].
(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) [الزخرف: ١2].
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) [الزخرف: ١5].
(وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) [الزخرف: ١9].
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 28].
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) [الزخرف: 33].
(وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف: 45].
(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [الزخرف: 60].
فالقارئ يستطيع أن يلمس حضور كلمة (جعل) في سياقات متعددة وبمعان متنوعة، ولذا حسن استعمال كلمة (جعل) بدل (أنزل) التي وردت بدرجة أقل كثيرا وبصيغة المجهول غالبا (نُزِّل).
هذا ما يخص آية الزخرف. أما ما يخص الآية الثانية وهي آية سورة الرعد فأقول:
وردت كلمة (حكم) في القرآن واللغة على معانٍ:
١- الحكم بمعنى الأمر والقضاء والسلطة، وذلك كما في قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ) [الأنعام: 57]. وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
٢- الحكم الفهم والعلم وذلك كما في قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم: 12]. أي: الفهم والعلم.
٣- الحكم بمعنى التكليف، وذلك كقولنا: هذا حكمه الحل أو الحرمة.
٤- الحكم بمعنى القضاء، وذلك كقولنا: حُكم القاضي هو كذا، أي قضى بكذا، ومنه قوله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) [الأنبياء: 78].
٥- والحكم بمعنى طريقة يساس بها الناس، فنقول: هذا حكم ديموقراطي، وهذا حكم استبدادي، وهذا حكم شرعي، وهذا حكم عرفي.
وعليه فمن هذه المعاني نرى التنوع في هذه الكلمة، ولكن لماذا انصرف السياق القرآني من ذكر كلمة (قرآن) إلى كلمة (حكم)؟
أقول: مرد ذلك إلى سياق الآيات من أول السورة وفي أثنائها؛ فالسورة الأقرب فيها أنها مكية وإن قيل أنها مدنية، ونستشعر فيها الطريقة المكية الجدلية الحوارية الإثباتية؛ انظر إلى قوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد: 4]. هذه الآية تحتاج من السامع إلى إعمال العقل في القياس والاستدلال، فهذه أشياء متشابهة الشكل مختلفة الطعم، وهذا يعرف بالإدراك والتجربة لا بالخبر فقط، وهو نوع من الاستدلال العقلي الذي يتفق مع معنى الحكم وهو العلم والفهم والحكمة.
وكذلك انظر إلى الآيات: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) إلى قوله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) [الرعد: 8-14]. نجد كلامًا يتعلق بإدراك الأشياء بالنظر والاستدلال، وهو كذلك عين الحكمة.
والسورة تناولت كذلك أحوال الناس وأنهم إما أعمى وإما بصير، إما مهتد وإما ضال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد: 19] . إلى آخر الآيات التي تكلمت على صفات كل فريق، وهذا أيضا باب من أبواب الحكمة، وهو تقسيم المسألة وبيان النتيجة بإظهار الأضداد.
ثم يختم السياق بقوله تعالى: (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد: 35].
وهذ نتيجة مترتبة على مقدمات كما يقول أهل المنطق.
ثانيا: لما قال الله سبحانه وتعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد: 39]، كان لا بد من التقديم لذلك بذكر الحكمة لئلا يعتبر القارئ المحو نسيانًا أو غفلة ولئلا يعتبر الإثبات عجزا أو قهرا، بل كل ذلك لحكمة بالغة اختص بها وأبان عن علاماتها في القرآن الذي وصفه بالحكم العربي.
ثالثا: إن كلمة القرآن جاءت نصًّا صريحا في آية سبقت هذه الآية؛ قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) [الرعد: 31]، فلما أراد أن يذكره مرة أخرى ذكره بالصفة دون اللفظ الصريح، وهذا من البيان كما نقول: فعل عمر وفعل، ثم لما نريد أن نذكره مرة أخرى نقول: وفعل الفاروق. وهما واحد للبيان بالاسم مرة والبيان بالصفة مرة وهذا باب مشهور في القرآن واللغة. رابعا: المقصود بالحكم في الآية الحكمة في تقدير الأشياء من حيث ذكر التكاليف والأحكام وهذا من معاني الحكم أيضا.
والحكم يكون بالقرآن فلما كان القرآن سببا في الحكم جعله الله حكما على سبيل المبالغة، ولما كان القرآن هو وسيلة معرفة الأحكام صار الإيمان به حكما أيضا فوصفه بذلك.
خامسا: كذلك ذكر الله في نهاية هذه السورة وصفا آخر للقرآن بأن سماه كتابا، وهذا من الجمال إذ بدأ السورة بوصفه بالكتاب: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) [الرعد: 1]، وختمها بوصفه بالكتاب: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) [الرعد: 43]، وبينهما ذكره باسمه وبصفته.
هذا، والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر