(ف 165) من الناس من يقول: إن الشرع لا يوجب على الزوجة أيًّا من أعمال المنزل، وإن واجبها تجاه الزوج ينحصر في أن تستجيب إن دعاها لنفسه. أما ما كان من أمور المنزل والأولاد فقيامها به تطوع منها. ما تفصيل ذلك؟

أولا: الأصل في الحياة الزوجية أن تقوم على التراحم والتكافل وألا يكلف طرف طرفا ما لا يطيق؛ فالرجل لا يطالب إلا بما قامت قدرته عليه وما أهله الله له، والمرأة لا تطالب إلا بما قامت قدرتها به وما أهلها الله له، ومِمَّا ثبت بالمعاينة والاستقراء لأحوال الناس قديمًا وحديثًا أن الرجل إنما تصير له الأعمال الصعبة والشاقة، وهو آلة الكسب والحماية والنفقة والرعاية، على حين أن المرأة هي لحاجات زوجها وأولادها بما أقدرها الله، وبما تعارف عليه الناس بالمعروف.
ثانيا: هناك أمور قطع فيها الشرع الحنيف وقال قولا لا اجتهاد معه، وهناك أمور تركها لاجتهاد المجتهدين وحاجة العالمين والمكلفين؛ فمثلا: أوجب الشرع على الرجل مهرًا، ومع ذلك لم يحدده بمقدار واحد. وأوجب على المرأة التسليم ولم يحددها بصورة واحدة، بل ينظر فيها لأحوال الناس واختلاف زمانهم ومكانهم وطبائعهم.
ثالثا: القول بأن المرأة لا يتوجب عليها العمل في بيت زوجها يعد من المجازفات الكلامية لا سيما في هذا العصر.
وهذا الأمر وإن اختلف فيه الفقه القديم فلا يجب أن يختلف فيه الناس الآن لأن هذه الدعوى في حقيقتها تزهِّد الرجال في الزواج؛ فالفقه القديم تكلم عن زمن كان هناك من الإماء والعبيد من يقوم بالخدمة في البيوت بأقل التكاليف وكان من عادة الناس حتى متوسطي الحال استعمال الخدم، وهذا قد انتهى بحمد الله لما فيه من مهانة للروح البشرية وقد أسهم الإسلام في القضاء عليه، فلا عبودية ولا استرقاق للروح البشرية.
رابعًا: الأدلة على وجوب عمل المرأة:
١- قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[البقرة: 228].
ففي هذه الآية أوجب الله على المرأة أن تعطي بمقابل ما تأخذ، وكل واحد يحدد ما يحتاجه بمقابل ما أعطى، فإن طلبها لحاجته الشرعية وجب التسليم بالمعروف، وإن طلبها لحاجته العضوية من طعام وشراب ونظافة وجب عليها الفعل بالمعروف كما يتوجب عليه النفقة والسكنى والإعالة، هذه بمقابل تلك.
– وقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} تعني أن للرجل قوامة على امرأته، فيوجهها إلى الوجهة التي يريد؛ فمن أرادها للجنس كانت له، ومن أرادها للولد كانت له، ومن أرادها لحاجة بيته كانت له.
وأنا أقول دائمًا للأخت المسلمة: إن الزواج مسئولية كبيرة علق عليها الرسول بأنها بالنسبة للمرأة: إما الجنة وإما النار، ومن لا تستطيع أن تقوم بهذه الحقوق فلتجلس في بيت أبيها معززة مكرمة، فإن أبت إلا الزواج فيتوجب عليها الطاعة والتسليم بما تعنيهما هاتان الكلمتان فيما تحب وفيما تكره، ولننظر لهذا الحديث الذي يعبر عن هذا المعنى:
• عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا أتى بابنته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج، فقال لها: «أَطِيعِي أَبَاكِ»، فقالت: والذي بعثك بالحق، لا أتزوج حتى تُخبرني ما حق الزوج على زوجته؟ فقال: «حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ فَلَحَسَتْهَا، أَوِ انْتَثَرَ مَنْخِرَاهُ صَدِيدًا أَوْ دَمًا، ثُمَّ ابْتَلَعَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» قال: فقالت: والذي بعثك بالحق لا أتزوج أبدًا. قال: فقال: «لَا تَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا بِإِذْنِهِنَّ»[رواه البيهقي والنسائي].
فهذه المرأة استشعرت صعوبة الأمر، فكيف يطلب منهن النبي لحس… ثم يمتنعن من خدمة طعامه وشرابه ونظافة بيته؟! وكيف يكون المستقذر واجبًا والممكن مندوبًا؟!
٢- في الصحيحين أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى، وتسأله خادما فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرتْه، قال علي: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: «مَكَانَكُمَا»، فجاء فقعد حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: «أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمِدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ». قال علي: فما تركتها بعدُ. قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين.
فلو كان يتوجب على علي أن يأتي لها بخادم لأمره النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي لا يجوز عليه تأخير البيان عن وقت الحاجة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة: 67].
٣- حديث تقسيم الأعمال بين فاطمة وعلي رضي الله عنهما، وفيه:
• حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة، خدمة البيت، وحكم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة.
والحديث رواه ابن أبي شيبة وغيره.
قال ابن حبيب: “الخدمة الباطنة: العجين، والطبخ، والفرش، وكنس البيت، واستقاء الماء، وعمل البيت كله”.
وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة الكريمة بنت الكريم أم الكرام بيت النبوة عليهم السلام، فكيف يكون عليها ما لا يتوجب على غيرها من النساء؟!
٤- روى أبو داود بسنده عن يعيش بن طِخْفَةَ بن قيس الغفاري قال: كان أبي من أصحاب الصفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ». فانطلقنا فقال: «يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا». فجاءت بحشيشة فأكلنا، ثم قال: «يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا». فجاءت بحَيْسَةٍ مثلِ القَطَاةِ فأكلنا، ثم قال: «يَا عَائِشَةُ اسْقِينَا». فجاءت بعُسٍّ من لَبَن فشربنا، ثم قال: «يَا عَائِشَةُ اسْقِينَا». فجاءت بقدح صغير فشربنا، ثم قال: «إِنْ شِئْتُمْ بِتُّمْ وَإِنْ شِئْتُمُ انْطَلَقْتُمْ إِلَى المَسْجِدِ». قال: فبينما أنا مضطجع في المسجد من السحر على بطني إذا رجل يحركني برجله فقال: «إِنَّ هَذِهِ ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ». قال: فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا النبي الأكرم وهو الأحرص على تطبيق شرع الله ما قام على خدمته وخدمة أصحابه إلا السيدة عائشة وهي أحب النساء إلى قلبه.
٥- بوب البخاري باب: قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس. وروى هذا الحديث:
• عَنْ سَهْلٍ قَالَ: لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلَّا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ.
فإذا حدث هذا من الزوجة في يوم عرسها فما بالنا بغيره من الأوقات؟!
٦- إن القاعدة تقول: (إن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا)، وعرف الناس منذ زمن أن المرأة تقصد للزواج لأغراض الحاجات الشرعية، ولأغراض أخرى من القيام على حاجة الرجل من طعام وشراب وغيرهما، وكذا حاجة أولاده. وصار هذا من أعراف الناس جيلا بعد جيل ومن أرادت أن تخالف هذا العرف الذي يأخذ حكم الشرط فلها أن تنص على غيره في العقد.
أما اذا لم تنص فيتوجب عليها شرعا أن تخدم الرجل وتكون في حاجته، وإلا لم تتزوج أصالة كما سبق وبينت.
– وعليه: لا يجوز للمرأة الامتناع عن خدمة زوجها إلا لعذر مانع مقبول شرعًا كالمرض والعجز وما في حكمهما.
والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر