(ف 168) هل بناء المقابر في مصر يعد من الصدقة الجارية؟ مع العلم أن المقابر في مصر ليست لحدًا ولا شقًّا.

أولًا: ورد في السنة أوصاف للقبر:
ففي صفة القبر ورد أنه يمكن أن يكون لحدًا ويمكن أن يكون شقًّا، واللحد هو الأفضل، وذلك للآتي:
– لأنه هو الذي اختارَه الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “لَمَّا تُوفِّي النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجلٌ يَلْحَد، وآخر يَضْرَح، فقالوا: نَستخير ربَّنا، ونَبعث إليهما، فأيُّهما سَبَق، ترَكناه، فأرسَلنا إليهما، فسبَق صاحبُ اللحدِ، فلَحَدوا للنبي صلى الله عليه وسلم”[رواه أحمد وابن ماجه].
•وعن سعد بن أبي وقاص قال: “الْحَدُوا لي لحدًا، وانْصِبوا عليَّ اللَّبِن نَصْبًا، كما صُنِع برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم”[رواه مسلم].
• ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو دواد والنسائي والترمذي وابن ماجه: «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا».
واللحد هو أن يُحفر القبر، ثم يُحفر في أسفله من جانبه الذي يلي القِبلة جزءا يسع جسد الميت فيوضع فيه الميت.
على حين أن الشق هو أن يُحفر القبر، ثم يُوضع الميِّت في أسفل الحفرة، ويُعرَّش فوقه باللَّبِن أو الخشب ونحوه، ثم يُوضع فوقه التراب.
ثانيا: انتشرت في مصر وفي تركيا وفي بعض البلاد العربية ظاهرة البناء، وهو أن يبنى القبر فوق الأرض، ويوضع فيه واحد أو أكثر، وصار منها بعض قبور الأولياء والصالحين.
وقد تفرقت كلمة أهل العلم في كراهية هذه الصورة، وقد روى ابن عابدين كراهيتها عن بعض مشيخة الأحناف فقال: “ويكره الدفن في الفَسَاقِي، وهي كبيت معقود بالبناء يسع جماعة قياما؛ لمخالفتها السنة، والكراهة فيها من وجوه: عدم اللحد، ودفن الجماعة في قبر واحد بلا ضرورة، واختلاط الرجال بالنساء بلا حاجز، وتجصيصها، والبناء عليها. قال في “الحلية”: وخصوصا إن كان فيها ميت لم يَبْلَ، وما يفعله جهلة الحفارين من نبش القبور التي لم تَبْل أربابُها، وإدخال أجانب عليهم: فهو من المنكر الظاهر”[حاشية ابن عابدين].
وورد مثل هذا عن جمهور العلماء، ومع ذلك فقد انتشرت هذه الطريقة انتشارًا كبيرًا حتى صارت من أعراف الناس في الدفن، وهذا النوع وإن خالف الأولى فإنه لم يخالف نصًّا قطعيا في دلالته، والنبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه لم يخترع طريقة جديدة في الدفن لم تكن في وقت الجاهلية وإن رجح واحدة على أخرى، فقد كان الناس قبل الإسلام يلحدون ويشقون فزكّى النبي اللحد.
– وعليه: فطريقة الدفن في مصر وغيرها وإن لم توافق ما عليه السنة في دفن النبي إلا أنها لا تعد محرمة؛ لأنها مما تعارف عليه الناس جيلا بعد جيل، وحضرها العلماء والفقهاء، ودفن بها الأولياء والصالحون.
– أما مسألة جمع أكثر من ميت في قبر فهي ليست بمحدثة فقد دفن النبي بعض شهداء أحد مجتمعين، وأجاز ذلك غير واحد من الأئمة، قال ابن عبد البر في الاستذكار :”باب الدفن في قبر واحد من ضرورة وإنفاذ أبي بكر رضي الله عنه عدة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته”.
ذكر فيه مالك، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ؛ أنه بلغه: أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين، ثم السلميين، كانا قد حفر السيل قبرهما. وكان قبرهما مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد. فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما. فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس. وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك. فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت، فرجعت كما كانت. وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة.
– قال مالك: “لا بأس أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد، من ضرورة، ويجعل الأكبر مما يلي القبلة”.
-وعليه: فلا أرى بأسا في التبرع لهذا النوع من القبور.
هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر