هذه من المسائل التي تعم بها البلوى بين الجنسين، لا سيما في الظروف الحالية التي لا تتيح لكثير من الشباب والشابات الزواج، أو لا تتيح للمتزوجين الطلاق بسهولة لتعلق الأمر بوجود روابط اجتماعية أخرى تدافع المرغوب بالمطلوب كوجود الولد، أو سطوة القوانين في حالة الطلاق المدني.
ونحن المفتين لا بد أن نتمثل دور الإفتاء حال النظر في هذه المسائل، لا حال المشرع المنظر أو القاضي. فالفتوى هي رخصة من ثقة، لا سيما أن ارتبطت بواقع اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي. وعموم البلوى له تأثير معتبر فيما يبيحه المفتي وفيما يمنعه، لا سيما مع احتمال الدليل. وعليه فأقول: أولًا: هذه السيدة متزوجة، وغاية الزواج الكبرى والأساسية هي حصول السكن بمفهومه المطابق لحال المتزوج، فللشاب سكنه وللشيخ سكنه، والأصل فيه آية سورة الروم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، فإن لم يقع الغرض الأسمى من الزواج، وخلا الأمر من الاعتبارات الخاصة التي يقدرها صاحب الضرر، فالحل هنا هو الطلاق الذي هو أيضًا شرع الله.
ثانيًا: لا يحسن بالمفتي أن يستعمل الوعظ في مقام الإفتاء، فهذا حال وهذا حال؛ فنصح المتزوج أو المتزوجة بالصوم، لا يوافق حال الزواج والغرض منه، بل إنه يخالف النص الذي يمنع من هذا، وهذا جلي في قصة المرأة التي اشتكت من زوجها لضربه إياها، وكذلك قصة سيدنا سلمان مع أبي الدرداء وزوجه، وهي كما ورد في صحيح البخاري أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كل. قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل. قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم. فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصليَا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صدق سلمان». وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» [أخرجه البخاري ومسلم بنحوه، وأخرجه ابن ماجه بلفظه]، وقوله لعثمان بن مظعون لما أعرض عن زوجته: «فَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا». فهذه نصوص تثبت حقوقًا مرتبة على عقد الزواج، بل إن حق المرأة فيها ثابت كحق الرجل وزيادة، إذ يجوز للرجل من التعدد ما لا يجوز للمرأة، فتحبس حاجتها عليه؛ فلا يحق لطرف أن يتنفل بصوم مع قيام حاجة الآخر، ولا ننصح المتزوجة بهذا مع قيام حاجتها، فنناقض الفطرة ونعادي الحاجة، ونفارق المقصد الذي بني عليه الزواج.
ثالثًا: فإذا كان الطلاق ممتنعًا لأسباب تخص كل طرف، وكذلك تلبية الحاجة الفطرية غائبة لعلة في الزوج، مع قيام اعتبارات أخرى كوجود الولد، أو خشية الضياع مع قسوة المجتمعات الآن، فلا حرج أن تستمتع المرأة بوسيلة ليست من المحرم اتفاقًا. وقد فطن الفقهاء الحنابلة إلى تلكم الحاجة الاجتماعية، فكانوا من أكثر الفقهاء تخفيفًا في الباب، فأجازوا للمرأة التي لديها حاجة جنسية وإن لم تكن متزوجة، أن تصنع لنفسها ما يعينها على قضائها، فأجازوا استعمال ( الاكرنبج – على اختلاف في نطقه وكتابته والغالب أنه أعجمي فارسي) وهو شيء مصنوع من الجلد على هيئة ذكر الرجل تقضي به حاجتها، ومن إطلاقهم يدل على جوازه لجميع النساء.
وممن نقل ذلك: ابن قدامة والمرداوي وابن مفلح والبهوتي، وذكروا أنه رأي القاضي (يقصدون أبا يعلى) ونسبه ابن القيم في بدائع الفوائد إلى جماعة من الحنابلة. رابعًا: مسألة الاستمناء بعامة مسألة خلافية، ولا يصح في المنع منها حديث، وآية سورة المؤمنون محتملة، ولم يفهمها الصحابة ولا التابعون في الأغلب على الوجه الذي حملته في منع الاستمناء، ولا تصلح دليلًا للمنع مع عموم البلوى. ولهذه السيدة أن تطلب الطلاق للضرر، فإن كان ذلك متعذرًا لأسباب فلها أن تقضي حاجتها استمناء، ولا فرق أن يقوم به الزوج لها أو أن تقوم به هي لنفسها، فالفعل واحد. بقي أن أشير إلى عدم المبالغة في ذكر الأضرار الطبية للاستمناء، فهي كغيرها يقع الضرر من الطريقة وليس الفعل، ومن المبالغة وليس القصد، وهذا عام في كل شيءٍ، حتى الحلال الذي لا خلاف عليه كالطعام والشراب وغيرهما، وما زال الناس يستمنون منذ بدء الخليقة ولم يثبت به مرض، بل قد تأتي الأمراض من الفعل الحلال كجماع الزوجين، إذا كان أحدهما معتلًا.
وتتميمًا للفائدة في مسألة الاستمناء أذكر بعض التعليقات لعلها تكون مفيدة:
أولًا: مسألة ربط الاستمناء تجويزًا بحال خشية الوقوع في الزنى، أو لتسكين الشهوة، والزعم أن أحدًا لم يقل بالإباحة مطلقًا، كلام فيه نظر ويحتاج مراجعة، بل الذي نقله السادة العلماء أن البعض قال بالإباحة المطلقة دون أن يقيدها بحال أو بوصف، نقل ذلك غير واحد: – منهم الإمام ابن حزم في المحلى بالآثار؛ قال: “والإباحة المطلقة صحيحة عن الحسن، وعن عمرو بن دينار، وعن زياد أبي العلاء، وعن مجاهد. ورواه من رواه من هؤلاء عمن أدركوا، وهؤلاء كبار التابعين الذين لا يكادون يروون إلا عن الصحابة رضي الله عنهم” – ومنهم ابن حجر رحمه الله في الفتح قال: “وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة” أي أباحه مطلقًا بمقابل من قيده بتسكين الشهوة أو الخوف من الزنى- .
يقول محمد بن عبد الله بن أبي بكر الحثيثي الصردفي الريمي من علماء الشافعية وقاضي قضاة زبيد أيام الملك الأشرف في كتابه المعاني البديعة: “وعند ابن عَبَّاسٍ نكاح الأمة خير منه وهو خير من الزنى. وعند أَحْمَد وعمرو بن دينار أنه يرخص فيه. وعند أَحْمَد أنه يباح لخوف العنت”. وروايته عن أحمد وعمرو بن دينار أنه يرخص مطلقًا، بمقابل الرواية الثانية التي تقيده بخوف العنت. – وممن نقل القول بالإباحة المطلقة الإمام الشوكاني في رسالته بلوغ المنى قال: “هذا الذي ذهب إلى الجواز -أعم من أن يكون مع الكراهة أو عدمها- ابن عباس ومجاهد وعمرو بن دينار وابن جريج وأحمد بن حنبل وأصحابه وبعض الحنفية وبعض الشافعية فيما حكاه السيد العلامة هاشم بن يحيى الشامي”. ويقول: “ويؤيد ذلك أن صاحب البحر حكى الخلاف من غير تقييد مقيد فقال: مسألة: الأكثر يحرم استنزال المني بالكف، ثم قال حاكيًا عن أحمد بن حنبل وعمرو بن دينار: إنه مباح. فأفاد هذا أنه منعه الأكثرون مطلقًا، وأباحه الأقلون مطلقًا”. وبهذا يظهر أن كلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى فيه نظر، حيث قال: “وأما بدون ضرورة فما علمت أحدًا رخص فيه”، فالإباحة المطلقة منقولة عن جمع من العلماء وتوافر على نقلها جمع من العلماء. وأنا وإن كنت لم أقرأ نص الإمام أحمد الذي فيه: “المني إخراج فضلة من البدن فجاز إخراجه” فيما قرأت من كتب الحنابلة، إلا أنه منقول عنه من الشوكاني وغيره، ولعلهم اطلعوا عليه بموسوعيتهم التي نفتقدها نحن. وعليه فالقول بالإباحة المطلقة مروي عن جمع من العلماء ومنسوب لابن عباس من الصحابة، ولا يصح جحد هذا إلا بدليل.
ثانيًا: التحريم إما أن يكون معلولًا معقولًا، أو يكون تعبديًّا، وهذا من المتفق عليه. فمثلا: قوله تعالى: ﱩحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﱨ [المائدة: 3] كلها محرمات تعبدية، وإن ظهرت لبعضها بعض الحكم، فلا تأثير لهذه الحكمة فهي محرمة سواء ظهرت الحكمة أو لم تظهر، فالله تعبدنا بتحريم هذه الأنواع، ولذلك هناك خطورة في إيجاد علل محرمة لهذه المذكورات لأن الحكم يدور مع العلة، فلا نلبث أن نبيحها أو بعضها لتخلف العلة، إذا تخلفت. أما تحريم المسكر فمعلول، فإذا تخلفت العلة فلا حرمة، وهذا معلوم ومتفق عليه. فإذا ما جئنا إلى مسألة الاستمناء، يكون السؤال: هل حكم التحريم -عند من يقول به- تعبدي، أو معلول، وإن كان معلولًا كما يبدو مما نقله البعض، فهل تذهب الحرمة بذهاب هذه العلل أو إذا ثبت اضطرابها؟ ولنناقش كلا التوجيهين مع محاولة الاختصار: التوجيه الأول: تحريم الاستمناء هو من جهة التعبد كحرمة الميتة والدم وغيرهما. والحق أنه لا إشكال في هذا التوجيه، بل هو المتوجه في هذه المسألة، لكن يرد عليه أن ما كان تحريمه تعبديًّا؛ يكون دليله قطعيًّا ثابتًا؛ نصًّا في المسألة، ولا يكون بابه الاستنباط، لأن الاستنباط يقتضي وجود العلة أو الحكمة، فنعود إلى النوع الثاني من المحرم وهو المعلول. ولنعطي مثالا: تحريم التدخين عند من يقول به، لم يأت بنص قطعي ينص على حرمته، وإنما حرم بالقياس على غيره من المخدرات والمفترات، ولا يكون تحريم إلا بجامع علة قائمة في المقيس والمقيس عليه. فالتدخين لا يمكن أن يكون تحريمه تعبديًّا. ولهذا فشرط التحريم التعبدي أن يكون ثمة نص خالٍ من العلة، غير قابل للتأويل.
وهنا يأتي السؤال الذي طرحه الدكتور معن وغيره من الأفاضل: أين نص التحريم من القرآن والسنة؟! لقد حرم الله الزنى بنص قطعي وهو تحريم تعبدي، فأين قطعية تحريم الاستمناء في نصوص السماع؟! وقد يقول المحرم: إن الوصف بالعدوان في آيتي سورة المؤمنون والمعارج تدلان على تحريم الاستمناء، لأن استعمال لفظ العدوان من وسائل التحريم وهي كثيرة جدًّا، ولا تقتصر على لفظ التحريم أو النهي.
ونقول: نعم لفظ العدوان قد يدل على التحريم لأن الله قرنه بالإثم في آيات، وكذلك قرنه بانتهاك أوامر الله تحليلًا وتحريمًا وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، ومع ذلك فقد ورد لفظ العدوان ولم يدل على التحريم؛ بل دل على الكراهة كما في حديث الزيادة على ثلاث غسلات في الوضوء وفيه: «فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» [أخرجه أحمد والنسائي]. وجمهور الفقهاء لا يقولون بحرمة الزيادة؛ بل أقصى ما يكون الكراهة، ولا يبطل الوضوء بالزيادة كما قال النووي: “إذا زاد على الثلاث فقد ارتكب المكروه ولا يبطل وضوءه، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، وحكى الدارمي في الاستذكار عن قوم أنه يبطل كما لو زاد في الصلاة، وهذا خطأ ظاهر”.
هذا أمر . الثاني: هل ذكرت الآية الاستمناء نصًّا؟ والجواب بالقطع: لا. إذن فما المقصود من كلمتي ( حافظون ) و(وراء ذلك )؟ هنا ليس لنا إلا أن نقول: الآية قصدت العموم، أو أنها تتحدث عن محذوف مقدر على سبيل الخصوص. والعموم لا يمكن أن يكون مقصودًا لأنه يشمل أفعالا ورد النص بإباحتها، كالنظر للفرج واللمس، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه]. إذن فالعموم غير مقصود بالنص. فلا يبقى إلا المعنى المخصوص، والذي يحدد التخصيص هنا هو سياق الآية والنصوص الأخرى التي يمكن أن تخصص هذا العموم، ولننظر ما ذكره المفسرون في ذلك، فقال مقاتل والسمرقندي: “عن الفواحش”، وقال يحيى بن سلام، وابن أبي زمنين: “من الزنى”، وذهب الصنعاني وإمام الهدى رضي الله عنه وابن عبد البر: إلى أنها متعة النساء. وقال الواحدي: “عن المعاصي”، وقال البغوى والخازن: “التعفف عن الحرام”، وقال ابن كثير: “الزنى واللواط”. وهكذا نرى أن جل المفسرين قالوا بتخصيص الممنوع، ولم يتوسعوا فيه، وذلك لذكر الزوجات وملك اليمين، ولو لم يأت هذا الاستثناء لدل اللفظ على العموم. والحق أن هذه الآيات كلها لا يمكن أن تحمل على العموم في شيءٍ، لأنه حتى جواز الفعل المستثنى من الحفظ لا يقع حله في كل وقت، ولا يقع على كل من دخل في الاستثناء، بل المستثنى نفسه دخله التخصيص، فالزوجة مستثناة ولكن لا يجوز إتيانها في الحيض، وقد علم بدليل آخر، وملك اليمين مستثنى إلا أنه لا يدخل فيه الذكور والحيوانات، فلا يأتي السيد عبده ولا بهيمته وإن تسموا بملك اليمين. وعليه، فهذه الآية التي هي العمدة في المنع، ليس لها عموم، والمعنى المقصود تجنبه محتمل، وذكر الزوجات وملك اليمين يفسره بما يقع مع الزوجات وملك اليمين على سبيل العادة وهو المباشرة والتبضع، فمن ابتغاهما في غير هذين النوعين فهو متعد ظالم. التوجيه الثاني: حرمة الاستمناء عند من حرمه معلولة معقولة الحكمة: قلنا: إن قسمة المحرمات تقتضي أن تكون إما تعبدية وإما معلولة معقولة، وما دمنا قد ذكرنا تفنيدًا لدعوى الحرمة التعبدية للافتقار للنص الدال على ذلك، فلا يبقى أن تكون الحرمة لها من الحكم ما يؤسس للتحريم، وأنا سأذكر هنا ما ذكره البعض في ثنايا كلامه تعليلًا.
العلة الأولى: التي قد يتمسك بها البعض أن الاستمناء هو سفح للماء بغير فائدة، وهذه علة قاصرة؛ لأن هذا الماء لم يوجد لحاجة الجسم له، وإنما ليكون سببًا في الولد، ووسيلة للمتعة الحلال، قال تعالى: ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾[الطارق: 6-7]. وهو ليس كالدم الذي لا يعيش الإنسان إلا به، وليس كالماء العادي الذي يحافظ على حرارة الجسم مع فوائد أخرى يترتب عليها بقاء الإنسان، بل إن الإنسان له أن يعيش بدون إنتاج المني، وهو ما يقع في أواخر العمر، وعليه فإخراجه بأي طريقة ليس فيه مفسدة للجسم. ولذا نجد أن الشريعة تجاوزت في سفحه ولم ترتب على ذلك إثمًا، ومن ذلك جواز استمتاع الرجل بزوجته في الحيض دون أن يدخل، وقد ورد أن حضرة النبي الأعظم كان يستمتع بنسائه في الحيض -ولا يعقل دون سفح للماء- كما في حديث السيدة عائشة، قالت: “كَانَ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَأْتَزِرُ بِإِزَارٍ ثُمَّ يُبَاشِرُهَا”. [أخرجه البخاري ومسلم]. وكذلك أجاز النبي للصحابة العزل لما سألوه في ذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم ، والعزل سفح للماء. وكذلك أجاز الشرع سفح ما هو أشد وفيه حاجة الإنسان وحياته وهو الدم في الحجامة والفصد، فسفح ما لا تعلق للحياة به أولى بالجواز. ومن هنا يتبين أن هذه العلة قاصرة.
العلة الثانية: أن الفعل وقع بالكف ولذلك سموه نكاح اليد: ونقول: إن هذه علة قاصرة أيضًا؛ وذلك لأنهم أجازوا أن يقع الاستمناء بفعل الزوجة وإن استعملت يدها، وكذلك الأمة وإن استعملت يدها، بل قالوا بجواز الاستمناء بغير اليد كما هو الحال في التفخيذ، وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز استمتاع الرجل من زوجته بما بين الأليتين دون الدبر. وكما جاز له بيدها، جاز لها بيده لقوله صلى الله عليه وسلم: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» [أخرجه مسلم]. وهو خطاب لهما معًا. فإذا جاز باليد، فما الفرق بين يده ويدها، ويدها ويده؟! والعقل الصحيح, والفطرة السليمة، التي قامت عليهما أحكام الشرع، تعطي الشيء حكم نظيره، وتنفي عنه حكم مخالفه، ولا يفرق بين النظائر، ليس هذا فقط بل الأولى هنا جوازه للنفس ما جاز للغير. والصواب أن هذا التعليل لا تقوم به حجة أيضًا.
العلة الثالثة: أن الاستمناء حرم لأنه من الأعمال الدنيئة، وليس من مكارم الأخلاق. وهنا تعليق مهم:
١- الوصف بالدناءة فرع عن تصور حكم الفعل، فهو لاحق للحكم لا سابق عليه، ولو كان دنيئًا في ذاته لانسحبت الصفة على كل ما يقع به ومن يقع منه، وقد أثبتنا أن الحال ليس كذلك إذا وقع بيد الزوجين والسيد مع أمته.
٢- أن الوصف بالدناءة وصف اجتماعي، وليس وصفًا شرعيًّا، ولا يصلح أن يكون بابًا للحكم بالحل والحرمة، فقد كانوا يعتبرون عمل الحجام من هذا الباب، وكذلك الكسّاح (الذي يعمل في تصريف المجاري) والقمّام، وغيرها من الأعمال الدنيئة، بل صرح بعضهم أنها لا تحسن بالحر، ومع ذلك فهي ليست محرمة لمجرد الوصف. قال ابن حجر في فتح الباري عن الحجامة: “إذ لا يلزم من كونها من المكاسب الدنيئة أن لا تشرع؛ فالكساح أسوأ حالًا من الحجام، ولو تواطأ الناس على تركه لأضر ذلك بهم”.
٣- أن العرف الاجتماعي يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال؛ فالزمان مثاله: العمامة التي كانت علامة على الاحترام والهيبة والحرية والعقل، حتى أنهم كانوا قديمًا لا يرون الحاسر إلا عبدًا أو مجنونًا، أما الآن وفي معظم البلاد الإسلامية صار الحاسر هو الأصل والمعتم هو الاستثناء، ولربما سئل عن مناسبة العمامة، وكلا الحالين مقبول. والمكان مثاله: ما ذكره عمر رضي الله عنه من سطوة نساء الأنصار أهل المدينة على أزواجهن، بخلاف نساء المهاجرين أهل مكة، ومع ذلك لم يرتب عليه عمر وصفًا سلبيًّا. والحال مثاله: رقص الرجل في زواج ابنه، وإن كان من سادات الناس، أو من العلماء، إذ إن الحال تشفع، وإن كان يعد عادةً من خوارم المروءة عند البعض، ودليله ما رواه الإمام أحمد من حجل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأول فقال له: «أَنْتَ مَوْلَايَ»، وأما الثاني فعندما قال له: «أَمَّا أَنْتَ فتُشْبِهُنِي فِي خَلْقِي وَخُلُقِي» والحجل الرقص على رِجْلٍ. والحديث حسن بمجموع طرقه؛ فقد رواه أحمد والبزار والبيهقي والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر وابن سعد وغيرهم. وعليه ما يكون مجافيًا لمكارم الأخلاق في زمان أو مكان أو حال، قد يختلف فلا يحكم عليه بذات الحكم، والاستمناء منه لأنه في زمانهم كان الزواج سهلًا، وكان التسري متاحًا، ولا ينصرف عنهما إلا شديد الفقر، أو من في نفسه شيءٍ، أما في زماننا فالحمد لله نسخ حكم الاسترقاق بتواطؤ العالمين عليه، والزواج فيه من العسرة ما فيه، فلا يمكن اعتبار وصف الزمن الغابر وصفًا سائرًا مقبولًا في زماننا لصعوبة البديل.
العلة الأخيرة: أن الاستمناء فاتح لباب الشهوة: وهذه علة قاصرة أيضًا؛ لأن استحضار الشهوة ليس ممنوعًا بالجملة؛ بل هو مطلوب مندوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: «هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ»[أخرجه البخاري ومسلم] والملاعبة باب من أبواب استحضار الشهوة، وكذلك ورد عن ابن عباس أنه كان يتزين لزوجته [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في سننه الكبرى] وفيه استحضار الشهوة. فاستحضار الشهوة ليس ممنوعًا في ذاته؛ بل ما يقع بعده، ونحن نقول: إن وقع بعده محرم فالفعل المحرم هو الممنوع، وليس مجرد الاستمناء، بل الاستمناء هو باب من أبواب تسكين الشهوة، وفيه قضاء حاجة وقتية قد يصعب قضاؤها بغيره. وبعد هذا التطواف في هذه المسألة، ما زال هناك ما يقال، ولكن سأكتفي بما تقدم عن ما تأخر.
وخلاصة آراء العلماء في المسألة:
الأول: التحريم وعدم الجواز إلا لضرورة الخوف من الوقوع في الزنى.
الثاني: الكراهة إلا في حالة خشية المرض، أو العنت، أو خشية الوقوع في المحرم فيجوز، بل يجب عند السادة الأحناف.
الثالث: الجواز مطلقًا لغياب الدليل المانع.
والذي نرجحه هو الرأي الثالث لما قدمناه، ولقيام المصلحة للقول به في هذه الأزمان. هذا، والله أعلم.
المفتي: د. خالد نصر
ونحن المفتين لا بد أن نتمثل دور الإفتاء حال النظر في هذه المسائل، لا حال المشرع المنظر أو القاضي. فالفتوى هي رخصة من ثقة، لا سيما أن ارتبطت بواقع اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي. وعموم البلوى له تأثير معتبر فيما يبيحه المفتي وفيما يمنعه، لا سيما مع احتمال الدليل. وعليه فأقول: أولًا: هذه السيدة متزوجة، وغاية الزواج الكبرى والأساسية هي حصول السكن بمفهومه المطابق لحال المتزوج، فللشاب سكنه وللشيخ سكنه، والأصل فيه آية سورة الروم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، فإن لم يقع الغرض الأسمى من الزواج، وخلا الأمر من الاعتبارات الخاصة التي يقدرها صاحب الضرر، فالحل هنا هو الطلاق الذي هو أيضًا شرع الله.
ثانيًا: لا يحسن بالمفتي أن يستعمل الوعظ في مقام الإفتاء، فهذا حال وهذا حال؛ فنصح المتزوج أو المتزوجة بالصوم، لا يوافق حال الزواج والغرض منه، بل إنه يخالف النص الذي يمنع من هذا، وهذا جلي في قصة المرأة التي اشتكت من زوجها لضربه إياها، وكذلك قصة سيدنا سلمان مع أبي الدرداء وزوجه، وهي كما ورد في صحيح البخاري أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كل. قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل. قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم. فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصليَا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صدق سلمان». وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» [أخرجه البخاري ومسلم بنحوه، وأخرجه ابن ماجه بلفظه]، وقوله لعثمان بن مظعون لما أعرض عن زوجته: «فَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا». فهذه نصوص تثبت حقوقًا مرتبة على عقد الزواج، بل إن حق المرأة فيها ثابت كحق الرجل وزيادة، إذ يجوز للرجل من التعدد ما لا يجوز للمرأة، فتحبس حاجتها عليه؛ فلا يحق لطرف أن يتنفل بصوم مع قيام حاجة الآخر، ولا ننصح المتزوجة بهذا مع قيام حاجتها، فنناقض الفطرة ونعادي الحاجة، ونفارق المقصد الذي بني عليه الزواج.
ثالثًا: فإذا كان الطلاق ممتنعًا لأسباب تخص كل طرف، وكذلك تلبية الحاجة الفطرية غائبة لعلة في الزوج، مع قيام اعتبارات أخرى كوجود الولد، أو خشية الضياع مع قسوة المجتمعات الآن، فلا حرج أن تستمتع المرأة بوسيلة ليست من المحرم اتفاقًا. وقد فطن الفقهاء الحنابلة إلى تلكم الحاجة الاجتماعية، فكانوا من أكثر الفقهاء تخفيفًا في الباب، فأجازوا للمرأة التي لديها حاجة جنسية وإن لم تكن متزوجة، أن تصنع لنفسها ما يعينها على قضائها، فأجازوا استعمال ( الاكرنبج – على اختلاف في نطقه وكتابته والغالب أنه أعجمي فارسي) وهو شيء مصنوع من الجلد على هيئة ذكر الرجل تقضي به حاجتها، ومن إطلاقهم يدل على جوازه لجميع النساء.
وممن نقل ذلك: ابن قدامة والمرداوي وابن مفلح والبهوتي، وذكروا أنه رأي القاضي (يقصدون أبا يعلى) ونسبه ابن القيم في بدائع الفوائد إلى جماعة من الحنابلة. رابعًا: مسألة الاستمناء بعامة مسألة خلافية، ولا يصح في المنع منها حديث، وآية سورة المؤمنون محتملة، ولم يفهمها الصحابة ولا التابعون في الأغلب على الوجه الذي حملته في منع الاستمناء، ولا تصلح دليلًا للمنع مع عموم البلوى. ولهذه السيدة أن تطلب الطلاق للضرر، فإن كان ذلك متعذرًا لأسباب فلها أن تقضي حاجتها استمناء، ولا فرق أن يقوم به الزوج لها أو أن تقوم به هي لنفسها، فالفعل واحد. بقي أن أشير إلى عدم المبالغة في ذكر الأضرار الطبية للاستمناء، فهي كغيرها يقع الضرر من الطريقة وليس الفعل، ومن المبالغة وليس القصد، وهذا عام في كل شيءٍ، حتى الحلال الذي لا خلاف عليه كالطعام والشراب وغيرهما، وما زال الناس يستمنون منذ بدء الخليقة ولم يثبت به مرض، بل قد تأتي الأمراض من الفعل الحلال كجماع الزوجين، إذا كان أحدهما معتلًا.
وتتميمًا للفائدة في مسألة الاستمناء أذكر بعض التعليقات لعلها تكون مفيدة:
أولًا: مسألة ربط الاستمناء تجويزًا بحال خشية الوقوع في الزنى، أو لتسكين الشهوة، والزعم أن أحدًا لم يقل بالإباحة مطلقًا، كلام فيه نظر ويحتاج مراجعة، بل الذي نقله السادة العلماء أن البعض قال بالإباحة المطلقة دون أن يقيدها بحال أو بوصف، نقل ذلك غير واحد: – منهم الإمام ابن حزم في المحلى بالآثار؛ قال: “والإباحة المطلقة صحيحة عن الحسن، وعن عمرو بن دينار، وعن زياد أبي العلاء، وعن مجاهد. ورواه من رواه من هؤلاء عمن أدركوا، وهؤلاء كبار التابعين الذين لا يكادون يروون إلا عن الصحابة رضي الله عنهم” – ومنهم ابن حجر رحمه الله في الفتح قال: “وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة” أي أباحه مطلقًا بمقابل من قيده بتسكين الشهوة أو الخوف من الزنى- .
يقول محمد بن عبد الله بن أبي بكر الحثيثي الصردفي الريمي من علماء الشافعية وقاضي قضاة زبيد أيام الملك الأشرف في كتابه المعاني البديعة: “وعند ابن عَبَّاسٍ نكاح الأمة خير منه وهو خير من الزنى. وعند أَحْمَد وعمرو بن دينار أنه يرخص فيه. وعند أَحْمَد أنه يباح لخوف العنت”. وروايته عن أحمد وعمرو بن دينار أنه يرخص مطلقًا، بمقابل الرواية الثانية التي تقيده بخوف العنت. – وممن نقل القول بالإباحة المطلقة الإمام الشوكاني في رسالته بلوغ المنى قال: “هذا الذي ذهب إلى الجواز -أعم من أن يكون مع الكراهة أو عدمها- ابن عباس ومجاهد وعمرو بن دينار وابن جريج وأحمد بن حنبل وأصحابه وبعض الحنفية وبعض الشافعية فيما حكاه السيد العلامة هاشم بن يحيى الشامي”. ويقول: “ويؤيد ذلك أن صاحب البحر حكى الخلاف من غير تقييد مقيد فقال: مسألة: الأكثر يحرم استنزال المني بالكف، ثم قال حاكيًا عن أحمد بن حنبل وعمرو بن دينار: إنه مباح. فأفاد هذا أنه منعه الأكثرون مطلقًا، وأباحه الأقلون مطلقًا”. وبهذا يظهر أن كلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى فيه نظر، حيث قال: “وأما بدون ضرورة فما علمت أحدًا رخص فيه”، فالإباحة المطلقة منقولة عن جمع من العلماء وتوافر على نقلها جمع من العلماء. وأنا وإن كنت لم أقرأ نص الإمام أحمد الذي فيه: “المني إخراج فضلة من البدن فجاز إخراجه” فيما قرأت من كتب الحنابلة، إلا أنه منقول عنه من الشوكاني وغيره، ولعلهم اطلعوا عليه بموسوعيتهم التي نفتقدها نحن. وعليه فالقول بالإباحة المطلقة مروي عن جمع من العلماء ومنسوب لابن عباس من الصحابة، ولا يصح جحد هذا إلا بدليل.
ثانيًا: التحريم إما أن يكون معلولًا معقولًا، أو يكون تعبديًّا، وهذا من المتفق عليه. فمثلا: قوله تعالى: ﱩحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﱨ [المائدة: 3] كلها محرمات تعبدية، وإن ظهرت لبعضها بعض الحكم، فلا تأثير لهذه الحكمة فهي محرمة سواء ظهرت الحكمة أو لم تظهر، فالله تعبدنا بتحريم هذه الأنواع، ولذلك هناك خطورة في إيجاد علل محرمة لهذه المذكورات لأن الحكم يدور مع العلة، فلا نلبث أن نبيحها أو بعضها لتخلف العلة، إذا تخلفت. أما تحريم المسكر فمعلول، فإذا تخلفت العلة فلا حرمة، وهذا معلوم ومتفق عليه. فإذا ما جئنا إلى مسألة الاستمناء، يكون السؤال: هل حكم التحريم -عند من يقول به- تعبدي، أو معلول، وإن كان معلولًا كما يبدو مما نقله البعض، فهل تذهب الحرمة بذهاب هذه العلل أو إذا ثبت اضطرابها؟ ولنناقش كلا التوجيهين مع محاولة الاختصار: التوجيه الأول: تحريم الاستمناء هو من جهة التعبد كحرمة الميتة والدم وغيرهما. والحق أنه لا إشكال في هذا التوجيه، بل هو المتوجه في هذه المسألة، لكن يرد عليه أن ما كان تحريمه تعبديًّا؛ يكون دليله قطعيًّا ثابتًا؛ نصًّا في المسألة، ولا يكون بابه الاستنباط، لأن الاستنباط يقتضي وجود العلة أو الحكمة، فنعود إلى النوع الثاني من المحرم وهو المعلول. ولنعطي مثالا: تحريم التدخين عند من يقول به، لم يأت بنص قطعي ينص على حرمته، وإنما حرم بالقياس على غيره من المخدرات والمفترات، ولا يكون تحريم إلا بجامع علة قائمة في المقيس والمقيس عليه. فالتدخين لا يمكن أن يكون تحريمه تعبديًّا. ولهذا فشرط التحريم التعبدي أن يكون ثمة نص خالٍ من العلة، غير قابل للتأويل.
وهنا يأتي السؤال الذي طرحه الدكتور معن وغيره من الأفاضل: أين نص التحريم من القرآن والسنة؟! لقد حرم الله الزنى بنص قطعي وهو تحريم تعبدي، فأين قطعية تحريم الاستمناء في نصوص السماع؟! وقد يقول المحرم: إن الوصف بالعدوان في آيتي سورة المؤمنون والمعارج تدلان على تحريم الاستمناء، لأن استعمال لفظ العدوان من وسائل التحريم وهي كثيرة جدًّا، ولا تقتصر على لفظ التحريم أو النهي.
ونقول: نعم لفظ العدوان قد يدل على التحريم لأن الله قرنه بالإثم في آيات، وكذلك قرنه بانتهاك أوامر الله تحليلًا وتحريمًا وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، ومع ذلك فقد ورد لفظ العدوان ولم يدل على التحريم؛ بل دل على الكراهة كما في حديث الزيادة على ثلاث غسلات في الوضوء وفيه: «فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» [أخرجه أحمد والنسائي]. وجمهور الفقهاء لا يقولون بحرمة الزيادة؛ بل أقصى ما يكون الكراهة، ولا يبطل الوضوء بالزيادة كما قال النووي: “إذا زاد على الثلاث فقد ارتكب المكروه ولا يبطل وضوءه، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، وحكى الدارمي في الاستذكار عن قوم أنه يبطل كما لو زاد في الصلاة، وهذا خطأ ظاهر”.
هذا أمر . الثاني: هل ذكرت الآية الاستمناء نصًّا؟ والجواب بالقطع: لا. إذن فما المقصود من كلمتي ( حافظون ) و(وراء ذلك )؟ هنا ليس لنا إلا أن نقول: الآية قصدت العموم، أو أنها تتحدث عن محذوف مقدر على سبيل الخصوص. والعموم لا يمكن أن يكون مقصودًا لأنه يشمل أفعالا ورد النص بإباحتها، كالنظر للفرج واللمس، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه]. إذن فالعموم غير مقصود بالنص. فلا يبقى إلا المعنى المخصوص، والذي يحدد التخصيص هنا هو سياق الآية والنصوص الأخرى التي يمكن أن تخصص هذا العموم، ولننظر ما ذكره المفسرون في ذلك، فقال مقاتل والسمرقندي: “عن الفواحش”، وقال يحيى بن سلام، وابن أبي زمنين: “من الزنى”، وذهب الصنعاني وإمام الهدى رضي الله عنه وابن عبد البر: إلى أنها متعة النساء. وقال الواحدي: “عن المعاصي”، وقال البغوى والخازن: “التعفف عن الحرام”، وقال ابن كثير: “الزنى واللواط”. وهكذا نرى أن جل المفسرين قالوا بتخصيص الممنوع، ولم يتوسعوا فيه، وذلك لذكر الزوجات وملك اليمين، ولو لم يأت هذا الاستثناء لدل اللفظ على العموم. والحق أن هذه الآيات كلها لا يمكن أن تحمل على العموم في شيءٍ، لأنه حتى جواز الفعل المستثنى من الحفظ لا يقع حله في كل وقت، ولا يقع على كل من دخل في الاستثناء، بل المستثنى نفسه دخله التخصيص، فالزوجة مستثناة ولكن لا يجوز إتيانها في الحيض، وقد علم بدليل آخر، وملك اليمين مستثنى إلا أنه لا يدخل فيه الذكور والحيوانات، فلا يأتي السيد عبده ولا بهيمته وإن تسموا بملك اليمين. وعليه، فهذه الآية التي هي العمدة في المنع، ليس لها عموم، والمعنى المقصود تجنبه محتمل، وذكر الزوجات وملك اليمين يفسره بما يقع مع الزوجات وملك اليمين على سبيل العادة وهو المباشرة والتبضع، فمن ابتغاهما في غير هذين النوعين فهو متعد ظالم. التوجيه الثاني: حرمة الاستمناء عند من حرمه معلولة معقولة الحكمة: قلنا: إن قسمة المحرمات تقتضي أن تكون إما تعبدية وإما معلولة معقولة، وما دمنا قد ذكرنا تفنيدًا لدعوى الحرمة التعبدية للافتقار للنص الدال على ذلك، فلا يبقى أن تكون الحرمة لها من الحكم ما يؤسس للتحريم، وأنا سأذكر هنا ما ذكره البعض في ثنايا كلامه تعليلًا.
العلة الأولى: التي قد يتمسك بها البعض أن الاستمناء هو سفح للماء بغير فائدة، وهذه علة قاصرة؛ لأن هذا الماء لم يوجد لحاجة الجسم له، وإنما ليكون سببًا في الولد، ووسيلة للمتعة الحلال، قال تعالى: ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾[الطارق: 6-7]. وهو ليس كالدم الذي لا يعيش الإنسان إلا به، وليس كالماء العادي الذي يحافظ على حرارة الجسم مع فوائد أخرى يترتب عليها بقاء الإنسان، بل إن الإنسان له أن يعيش بدون إنتاج المني، وهو ما يقع في أواخر العمر، وعليه فإخراجه بأي طريقة ليس فيه مفسدة للجسم. ولذا نجد أن الشريعة تجاوزت في سفحه ولم ترتب على ذلك إثمًا، ومن ذلك جواز استمتاع الرجل بزوجته في الحيض دون أن يدخل، وقد ورد أن حضرة النبي الأعظم كان يستمتع بنسائه في الحيض -ولا يعقل دون سفح للماء- كما في حديث السيدة عائشة، قالت: “كَانَ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَأْتَزِرُ بِإِزَارٍ ثُمَّ يُبَاشِرُهَا”. [أخرجه البخاري ومسلم]. وكذلك أجاز النبي للصحابة العزل لما سألوه في ذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم ، والعزل سفح للماء. وكذلك أجاز الشرع سفح ما هو أشد وفيه حاجة الإنسان وحياته وهو الدم في الحجامة والفصد، فسفح ما لا تعلق للحياة به أولى بالجواز. ومن هنا يتبين أن هذه العلة قاصرة.
العلة الثانية: أن الفعل وقع بالكف ولذلك سموه نكاح اليد: ونقول: إن هذه علة قاصرة أيضًا؛ وذلك لأنهم أجازوا أن يقع الاستمناء بفعل الزوجة وإن استعملت يدها، وكذلك الأمة وإن استعملت يدها، بل قالوا بجواز الاستمناء بغير اليد كما هو الحال في التفخيذ، وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز استمتاع الرجل من زوجته بما بين الأليتين دون الدبر. وكما جاز له بيدها، جاز لها بيده لقوله صلى الله عليه وسلم: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» [أخرجه مسلم]. وهو خطاب لهما معًا. فإذا جاز باليد، فما الفرق بين يده ويدها، ويدها ويده؟! والعقل الصحيح, والفطرة السليمة، التي قامت عليهما أحكام الشرع، تعطي الشيء حكم نظيره، وتنفي عنه حكم مخالفه، ولا يفرق بين النظائر، ليس هذا فقط بل الأولى هنا جوازه للنفس ما جاز للغير. والصواب أن هذا التعليل لا تقوم به حجة أيضًا.
العلة الثالثة: أن الاستمناء حرم لأنه من الأعمال الدنيئة، وليس من مكارم الأخلاق. وهنا تعليق مهم:
١- الوصف بالدناءة فرع عن تصور حكم الفعل، فهو لاحق للحكم لا سابق عليه، ولو كان دنيئًا في ذاته لانسحبت الصفة على كل ما يقع به ومن يقع منه، وقد أثبتنا أن الحال ليس كذلك إذا وقع بيد الزوجين والسيد مع أمته.
٢- أن الوصف بالدناءة وصف اجتماعي، وليس وصفًا شرعيًّا، ولا يصلح أن يكون بابًا للحكم بالحل والحرمة، فقد كانوا يعتبرون عمل الحجام من هذا الباب، وكذلك الكسّاح (الذي يعمل في تصريف المجاري) والقمّام، وغيرها من الأعمال الدنيئة، بل صرح بعضهم أنها لا تحسن بالحر، ومع ذلك فهي ليست محرمة لمجرد الوصف. قال ابن حجر في فتح الباري عن الحجامة: “إذ لا يلزم من كونها من المكاسب الدنيئة أن لا تشرع؛ فالكساح أسوأ حالًا من الحجام، ولو تواطأ الناس على تركه لأضر ذلك بهم”.
٣- أن العرف الاجتماعي يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال؛ فالزمان مثاله: العمامة التي كانت علامة على الاحترام والهيبة والحرية والعقل، حتى أنهم كانوا قديمًا لا يرون الحاسر إلا عبدًا أو مجنونًا، أما الآن وفي معظم البلاد الإسلامية صار الحاسر هو الأصل والمعتم هو الاستثناء، ولربما سئل عن مناسبة العمامة، وكلا الحالين مقبول. والمكان مثاله: ما ذكره عمر رضي الله عنه من سطوة نساء الأنصار أهل المدينة على أزواجهن، بخلاف نساء المهاجرين أهل مكة، ومع ذلك لم يرتب عليه عمر وصفًا سلبيًّا. والحال مثاله: رقص الرجل في زواج ابنه، وإن كان من سادات الناس، أو من العلماء، إذ إن الحال تشفع، وإن كان يعد عادةً من خوارم المروءة عند البعض، ودليله ما رواه الإمام أحمد من حجل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأول فقال له: «أَنْتَ مَوْلَايَ»، وأما الثاني فعندما قال له: «أَمَّا أَنْتَ فتُشْبِهُنِي فِي خَلْقِي وَخُلُقِي» والحجل الرقص على رِجْلٍ. والحديث حسن بمجموع طرقه؛ فقد رواه أحمد والبزار والبيهقي والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر وابن سعد وغيرهم. وعليه ما يكون مجافيًا لمكارم الأخلاق في زمان أو مكان أو حال، قد يختلف فلا يحكم عليه بذات الحكم، والاستمناء منه لأنه في زمانهم كان الزواج سهلًا، وكان التسري متاحًا، ولا ينصرف عنهما إلا شديد الفقر، أو من في نفسه شيءٍ، أما في زماننا فالحمد لله نسخ حكم الاسترقاق بتواطؤ العالمين عليه، والزواج فيه من العسرة ما فيه، فلا يمكن اعتبار وصف الزمن الغابر وصفًا سائرًا مقبولًا في زماننا لصعوبة البديل.
العلة الأخيرة: أن الاستمناء فاتح لباب الشهوة: وهذه علة قاصرة أيضًا؛ لأن استحضار الشهوة ليس ممنوعًا بالجملة؛ بل هو مطلوب مندوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: «هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ»[أخرجه البخاري ومسلم] والملاعبة باب من أبواب استحضار الشهوة، وكذلك ورد عن ابن عباس أنه كان يتزين لزوجته [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في سننه الكبرى] وفيه استحضار الشهوة. فاستحضار الشهوة ليس ممنوعًا في ذاته؛ بل ما يقع بعده، ونحن نقول: إن وقع بعده محرم فالفعل المحرم هو الممنوع، وليس مجرد الاستمناء، بل الاستمناء هو باب من أبواب تسكين الشهوة، وفيه قضاء حاجة وقتية قد يصعب قضاؤها بغيره. وبعد هذا التطواف في هذه المسألة، ما زال هناك ما يقال، ولكن سأكتفي بما تقدم عن ما تأخر.
وخلاصة آراء العلماء في المسألة:
الأول: التحريم وعدم الجواز إلا لضرورة الخوف من الوقوع في الزنى.
الثاني: الكراهة إلا في حالة خشية المرض، أو العنت، أو خشية الوقوع في المحرم فيجوز، بل يجب عند السادة الأحناف.
الثالث: الجواز مطلقًا لغياب الدليل المانع.
والذي نرجحه هو الرأي الثالث لما قدمناه، ولقيام المصلحة للقول به في هذه الأزمان. هذا، والله أعلم.
المفتي: د. خالد نصر