(ف15) هل إذا دخلت المسجد وكان هناك أناس أبدأ بالسلام عليهم أم بتحية المسجد؟

أقول وبالله الحمد:
لا تخلو أحوال الناس في المسجد من أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون الصلاة قد أقيمت والجمع مشغول بمتابعة الإمام، وفي هذه الحال هناك رأيان:
الأول: يسلم حين الدخول ويرد الناس إشارة واستدلوا لذلك بعموم آية (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) [النساء: 86]. وكذلك ببعض الأخبار التي تقول إن الصحابة كانوا يسلمون على النبي وكان يرد بالإشارة.
الثاني: أنه لا يسلم بل يدخل في الصلاة وهذا ما عليه أئمتنا. ودليلنا الآتي:
– أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكلام في الصلاة والسلام، وعناء الرد باللفظ أو بالحركة فعل ليس من جنس الصلاة.
– أن الكلام كان في الصلاة مشروعا ثم نسخ لحديث ابن مسعود الذي أخرجه الشيخان بلفظ: قال: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ: « إِنَّ فِى الصَّلاَةِ شُغْلًا ». ومثله حديث معاوية بن الحكم.
– أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكلام في أثناء خطبة الجمعة، وهي ليست صلاة معهودة فما بالنا بالصلاة المعهودة. – جاء في “غذاء الألباب شرح منظومة الآداب”: (يكره السلام على جماعة, منهم المتوضئ, ومَنْ في الحمام, ومن يأكل, أو يقاتل, وعلى تَالٍ, وذاكر, ومُلَبٍّ, ومحدث, وخطيب, وواعظ, وعلى مستمع لهم ومُكَرِّر فقه, ومدرس, وباحث في علم, ومؤذن ومقيم, ومن على حاجته, ومتمتع بأهله, أو مشتغل بالقضاء, ونحوهم. فمن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام لم يستحق جوابا).
وقد ورد في بعض هذه المذكورات أحاديث وقاس العلماء عليها الباقي.
الحالة الثانية: أن لا تكون الصلاة قد أقيمت والنَّاس منشغلون بطلب علم أو درس أو قراءة قرآن، ففي هذه الحالة قال بعضهم: يسلم على الحاضرين. واستدل بالعموم الذي أشرت إليه في الآية وفي أحاديث إفشاء السلام. وقال البعض: لا يسلم لعدم التشويش، وقياسا على ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام وهو يقضي حاجته وكذلك وهو يتوضأ؛ فعن المهاجر بن قُنْفُذ: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: « إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ إِلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ ». قَالَ: فَكَانَ الْحَسَنُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَذْكُرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَتَطَهَّرَ. قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
وعن عطاء الخراساني يرفعه قال: « لَيْسَ لِلنِّسَاءِ سَلَامٌ وَلَا عَلَيْهِنَّ سَلَامٌ ». أخرجه أبو نعيم في الحلية وإسناده منقطع. ولعل أهل العلم أخذوا النهي عن السلام على الشابة من النهي عما يمكن أن يكون سببا للفتنة.
الحالة الثالثة: أن لا تكون الصلاة قد أقيمت والنَّاس غير منشغلين بشيء بل ينتظرون الصلاة، وفي هذه الحالة يجوز السلام ويندب الرد. أما ما يخص السؤال وهو أيهما يقدم تحية المسجد أم السلام في مثل الحالة الثالثة فالسلام يقدم على غيره، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: « أَفْشُوا السَّلَامَ ». ولقوله في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: « إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ ». وهذا عام لم يرد أن الانشغال بتحية المسجد يقيده. أما ما استدل به ابن القيم على تقديم تحية المسجد على السلام مستدلا بحديث المسيء في صلاته حيث صلى أولا ثم أتى فسلم فصوبه النبي في الصلاة ولَم يعلق على السلام -فقد رده ابن رجب كما نقل عنه صاحب الفتح: وما ذهب إليه ابن القيم من تقديم تحية المسجد على السلام على من في المسجد بإطلاق محل نظر عند ابن رجب إذ يقول في فتح الباري عند ذكر حديث المسيء في صلاته: استدل بعضهم بهذا الحديث على أن من دخل المسجد وفيه قوم جلوس، فإنه يبدأ فيصلي تحية المسجد، ثم يسلم على من فيه، فيبدأ بتحية المسجد قبل تحية الناس. وفي هذا نظر، وهذه واقعة عين، فيحتمل أنه لما دخل المسجد صلى في مؤخره قريبًا من الباب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في صدر المسجد، فلم يكن قد مر عليهم قبل صلاته، أو أنه لما دخل المسجد مشى إلى قريبٍ من قبلة المسجد، بالبعد من الجالسين في المسجد، فصلى فيه، ثم انصرف إلى الناس، يدل على ذلك: أنه روي في هذا الحديث: « أن رجلًا دخل المسجد، فصلى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد، فجاء فسلم -وذكر الحديث-. أخرجه ابن ماجه. فأما من دخل المسجد فمر على قوم فيه، فإنه يسلم عليهم ثم يصلى. انتهى.
أما قولهم: إن الصلاة حق الله والسلام حق العبد وحق الله مقدم. فهذا فيه نظر؛ لأن السلام حق مشترك بين الله والعبد؛ لأن من يسلم فإنه يفعل قربة أمره الله بها في حق لله في الاستجابة وحق للعبد بالصحبة. وعليه ما تعددت فيه الحقوق على ما انفردت حقوقه وهو تحية المسجد. ويبقى أن نقول من باب الجدل هناك مساجد لها ساحات ومداخل كبيرة وممرات وسلالم ، فهل يقول قائل: إن من يمر عليها داخلا المصلى لا يسلم على أحد حتى يصلي التحية مع الأخذ في الاعتبار أنها جزء من المسجد بدليل أن من كان في مكان منها لم يخرج من حد المسجد إذا كان معتكفا. هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر