الأصل في شريعتنا الاتباع، وليس كل واحد له القدرة على الفهم والاستنباط، فهؤلاء الصحابة اختلفت أفهامهم وتنوعت مشاربهم، وصاروا في الفتيا مدارس، فبين المدرسة المحافظة التي تقف عند حدود ما ورد، وبين المدرسة المجتهدة التي تأتي بالجديد الذي يستند إلى روح الشريعة، وإن لم يقع به نص صريح.
فهذا الخليفة عمر رضي الله عنه قد اجتهد وأحدث ما لم يقع قبله كصلاة القيام جماعة، وميراث الجدة، وتعطيل الحد عام المجاعة، وتقسيم الناس على حسب المراتب في العطاء، وتعطيل نصيب المؤلفة قلوبهم، وغيرها من الأمور المشهورة في فقه الخليفة الثاني بمقابلة سيدنا علي أو عثمان أو عبد الله بن عمر.
قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: 83]. وأهل الاستنباط منَّ الله عليهم بالمعرفة والفهم والحكمة.
ثانيا: درجت الفتيا في عهد الصحابة على التنوع، وكان يخالف الصحابي الصحابي في الأمر الكبير والصغير، وكل واحد يرتد لفهم ذات النص، أو لاجتهاد سائغ، أو لقياس سابغ.
وجاء من بعدهم أئمة مجتهدون، فحازوا علم الصحابة، وحازوا معه هذا التنوع، فتنوعت آراؤهم، وإن ارتدت في أصولها إلى فهم الصحب الكرام.
فعندنا مثلا في المذهب قول مشهور: “الفقه زرعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وسقاه علقمة، وحصده إبراهيم النخعي، وداسه حماد، وطحنه أبو حنيفة، وعجنه أبو يوسف، وخبزه محمد، فسائر الناس يأكلون من خبزه” كما نقله خاتمة المحققين سيدنا ابن عابدين رحمه الله.
ومن المذاهب ما يرتد إلى عمل أهل المدينة، ومنهم من خرج عن ذلك وتأثر بغيرها، كمذهب الشافعي في قديمه وحديثه وهكذا.
ثالثا: والصواب موزع في رأي كل هؤلاء، والشريعة قائمة على التنوع في الفهم والسهولة في التطبيق، كما أن الأمة أجمعت على قبول أهل المذاهب الأربعة: السادة الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة.
يقول الحافظ ابن رجب في (الرسائل): “فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه: بأن نصب للناس أئمة مجتمعًا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى، من أهل الرأي والحديث، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام.
وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين، ولولا ذلك لرأى الناس العجاب مِن كل أحمق متكلف معجبٍ برأيه جريء على الناس وثَّاب. فيدعي هذا أنه إمام الأئمة، ويدعي هذا أنه هادي الأمة، وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه، والتعويل دون الخلق عليه”. اهـ.
وعلى هذا فنحن نؤمن أن الله الذي تكفل بحفظ دينه وكتابه هو من هدانا إلى هذه المذاهب بتنوعها.
رابعًا: ورد عن بعض الأئمة النهي عن اتباع أقوالهم إن خالفت السنة والدليل،
وهذا وإن ورد عن الأئمة الأربعة تقريبًا بألفاظ متقاربة، فإنه لا يقدح بعلمهم وصحة مسلكهم إذ هو من باب الورع والبراءة، فمن ذا الذي أحاط بكل شيئا علما.
ولذا احتاط الأئمة لأنفسهم فأطلقوا هذا القول، ولكن جاءت أجيال في كل مذهب سدت الخلة، وكثرت القلة، فبسطت وشرحت، وأيدت وفندت، حتى استوى كل مذهب على الجودي بأصوله وفروعه.
قال ابن رجب أيضًا: ” فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا. وهذا كثير موجود في كلامهم. قيل: لا ريب أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينهى عن آراء الفقهاء والاشتغال بها حفظًا وكتابة، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظًا وفهمًا وكتابة ودراسة، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام مَن بعدهم، ومعرفة صحة ذلك من سقمه، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه، ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمام به والاشتغال بتعلمه أولًا قبل غيره، فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته -كما أشار إليه الإمام أحمد- فقد صار علمه قريبًا من علم أحمد، فهذا لا حجر عليه، ولا يتوجه الكلام فيه، إنما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية، ولا ارتقى إلى هذه النهاية، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان، بل هو حال أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إلى الغايات والانتهاء إلى النهايات، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات” اهـ.
فكل هذا مرده إلى الورع والتورع.
خامسا: الناس في المذهبية نوعان:
– إما عالم بأمور المذهب وحججه ودلائله مع الرد على من خالف:
فهذا لا يسعه أن يخالف الدليل إلا إن بَانَ له الصواب في غيره، وإلا كان يصدر عن هوى.
– وآخر لا علم له بأصول المذهب وفروعه ولا طرائق الاستدلال والرد والتفنيد إن تعارضت الأدلة:
فهذا سبيله أن يقلد مذهبًا أو يتبع مفتيًا يثق به، فإن قلد المذهب أخذه جملة ولم يجز له التركيب بين المذاهب تتبعًا للرخص.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا”.
سادسًا: بالنسبة للمسألة محل السؤال وهي الجمع بين الجمعة والعصر تخريجًا على مذهب الشافعية:
فهذا جائز للإمام أن يتخير من المذاهب ما نهض به الدليل، والمأموم من بعدُ على الخيار إن شاء تابع إمامه، وإن شاء تابع مذهبه ما دام من أهل التقليد جملة.
– أما إن كان من أهل الاجتهاد فالأصل أن يتبع ما قامت به الحجة وإن جاز له أيضا أن يعمل بالمرجوح في وجود الراجح كما صرح بذلك خاتمة المحققين عندنا سيدنا ابن عابدين.
هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر
فهذا الخليفة عمر رضي الله عنه قد اجتهد وأحدث ما لم يقع قبله كصلاة القيام جماعة، وميراث الجدة، وتعطيل الحد عام المجاعة، وتقسيم الناس على حسب المراتب في العطاء، وتعطيل نصيب المؤلفة قلوبهم، وغيرها من الأمور المشهورة في فقه الخليفة الثاني بمقابلة سيدنا علي أو عثمان أو عبد الله بن عمر.
قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: 83]. وأهل الاستنباط منَّ الله عليهم بالمعرفة والفهم والحكمة.
ثانيا: درجت الفتيا في عهد الصحابة على التنوع، وكان يخالف الصحابي الصحابي في الأمر الكبير والصغير، وكل واحد يرتد لفهم ذات النص، أو لاجتهاد سائغ، أو لقياس سابغ.
وجاء من بعدهم أئمة مجتهدون، فحازوا علم الصحابة، وحازوا معه هذا التنوع، فتنوعت آراؤهم، وإن ارتدت في أصولها إلى فهم الصحب الكرام.
فعندنا مثلا في المذهب قول مشهور: “الفقه زرعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وسقاه علقمة، وحصده إبراهيم النخعي، وداسه حماد، وطحنه أبو حنيفة، وعجنه أبو يوسف، وخبزه محمد، فسائر الناس يأكلون من خبزه” كما نقله خاتمة المحققين سيدنا ابن عابدين رحمه الله.
ومن المذاهب ما يرتد إلى عمل أهل المدينة، ومنهم من خرج عن ذلك وتأثر بغيرها، كمذهب الشافعي في قديمه وحديثه وهكذا.
ثالثا: والصواب موزع في رأي كل هؤلاء، والشريعة قائمة على التنوع في الفهم والسهولة في التطبيق، كما أن الأمة أجمعت على قبول أهل المذاهب الأربعة: السادة الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة.
يقول الحافظ ابن رجب في (الرسائل): “فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه: بأن نصب للناس أئمة مجتمعًا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى، من أهل الرأي والحديث، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام.
وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين، ولولا ذلك لرأى الناس العجاب مِن كل أحمق متكلف معجبٍ برأيه جريء على الناس وثَّاب. فيدعي هذا أنه إمام الأئمة، ويدعي هذا أنه هادي الأمة، وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه، والتعويل دون الخلق عليه”. اهـ.
وعلى هذا فنحن نؤمن أن الله الذي تكفل بحفظ دينه وكتابه هو من هدانا إلى هذه المذاهب بتنوعها.
رابعًا: ورد عن بعض الأئمة النهي عن اتباع أقوالهم إن خالفت السنة والدليل،
وهذا وإن ورد عن الأئمة الأربعة تقريبًا بألفاظ متقاربة، فإنه لا يقدح بعلمهم وصحة مسلكهم إذ هو من باب الورع والبراءة، فمن ذا الذي أحاط بكل شيئا علما.
ولذا احتاط الأئمة لأنفسهم فأطلقوا هذا القول، ولكن جاءت أجيال في كل مذهب سدت الخلة، وكثرت القلة، فبسطت وشرحت، وأيدت وفندت، حتى استوى كل مذهب على الجودي بأصوله وفروعه.
قال ابن رجب أيضًا: ” فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا. وهذا كثير موجود في كلامهم. قيل: لا ريب أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينهى عن آراء الفقهاء والاشتغال بها حفظًا وكتابة، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظًا وفهمًا وكتابة ودراسة، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام مَن بعدهم، ومعرفة صحة ذلك من سقمه، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه، ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمام به والاشتغال بتعلمه أولًا قبل غيره، فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته -كما أشار إليه الإمام أحمد- فقد صار علمه قريبًا من علم أحمد، فهذا لا حجر عليه، ولا يتوجه الكلام فيه، إنما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية، ولا ارتقى إلى هذه النهاية، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان، بل هو حال أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إلى الغايات والانتهاء إلى النهايات، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات” اهـ.
فكل هذا مرده إلى الورع والتورع.
خامسا: الناس في المذهبية نوعان:
– إما عالم بأمور المذهب وحججه ودلائله مع الرد على من خالف:
فهذا لا يسعه أن يخالف الدليل إلا إن بَانَ له الصواب في غيره، وإلا كان يصدر عن هوى.
– وآخر لا علم له بأصول المذهب وفروعه ولا طرائق الاستدلال والرد والتفنيد إن تعارضت الأدلة:
فهذا سبيله أن يقلد مذهبًا أو يتبع مفتيًا يثق به، فإن قلد المذهب أخذه جملة ولم يجز له التركيب بين المذاهب تتبعًا للرخص.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا”.
سادسًا: بالنسبة للمسألة محل السؤال وهي الجمع بين الجمعة والعصر تخريجًا على مذهب الشافعية:
فهذا جائز للإمام أن يتخير من المذاهب ما نهض به الدليل، والمأموم من بعدُ على الخيار إن شاء تابع إمامه، وإن شاء تابع مذهبه ما دام من أهل التقليد جملة.
– أما إن كان من أهل الاجتهاد فالأصل أن يتبع ما قامت به الحجة وإن جاز له أيضا أن يعمل بالمرجوح في وجود الراجح كما صرح بذلك خاتمة المحققين عندنا سيدنا ابن عابدين.
هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر