(ف180) نرجو تبيان حد الردة، وعلى من يقع التنفيذ، وكيف أنه لو حد الردة القتل نحبب الراغبين في الدخول في الإسلام؟

لقد كثر الجدل حول هذه القضية حديثًا بعد أن انفتح الناس بعضهم على بعض، وصار الناس حولها فريقين:
١- فريق يرى أن الحد ثبت بالسنة القولية وفعل أبي بكر ومعه الصحابة.
٢- وفريق يرى أنه لا حد في الحقيقة يترتب على مجرد ترك الإسلام لغيره، والعقوبة المذكورة تترتب على فعل آخر لا مجرد الردة. وأنا هنا سأذكر أدلة كل فريق مع الاختصار قدر الإمكان لنخلص للنتيجة:
أولًا: من أثبت الحد :
وهنا نجد ما يشبه الإجماع بين الفقهاء وأصحاب المذاهب الإسلامية ومنهم الأئمة الأربعة الذين سننقل بعض أقوالهم:
المذهب الحنفي:
جاء في كتاب المبسوط للسرخسي وهو من الكتب الرئيسة عندنا في المذهب، قال: “إذا ارتد المسلم عرض عليه الإسلام، فإن أسلم، وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجل، فإذا طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والأصل في وجوب قتل المرتدين قوله تعالى: {أَوْ يُسْلِمُونَ}[الفتح: 16] قيل: الآية في المرتدين، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وقتل المرتد على ردته مروي عن علي وابن مسعود ومعاذ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا لأن المرتد بمنزلة مشركي العرب أو أغلظ منهم جناية، فإنهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن نزل بلغتهم، ولم يراعوا حق ذلك حين أشركوا، وهذا المرتد كان من أهل دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف محاسن شريعته ثم لم يراع ذلك حين ارتد، فكما لا يقبل من مشركي العرب إلا السيف أو الإسلام فكذلك من المرتدين، إلا أنه إذا طلب التأجيل أجل ثلاثة أيام؛ لأن الظاهر أنه دخل عليه شبهة ارتد لأجلها فعلينا إزالة تلك الشبهة، أو هو يحتاج إلى التفكر ليتبين له الحق فلا يكون ذلك إلا بمهلة، فإن استمهل كان على الإمام أن يمهله، ومدة النظر مقدرة بثلاثة أيام في الشرع كما في الخيار، فلهذا يمهله ثلاثة أيام لا يزيده على ذلك، وإن لم يطلب التأجيل يقتل من ساعته في ظاهر الرواية”.
المذهب المالكي:
جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد: “والمرتد إذا ظفر به قبل أن يحارب فاتفقوا على أنه يقتل الرجل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»…. وأما الاستتابة فإن مالكا شرط في قتله ذلك على ما رواه عن عمر، وقال قوم: لا تقبل توبته….. ثم قال: وأما إذا حارب المرتد، ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة، ولا يستتاب، كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلا أن يسلم.”
المذهب الشافعي:
قال الإمام الشافعي في كتاب الأم: “ومن انتقل عن الشرك إلى إيمان ثم انتقل عن الإيمان إلى الشرك من بالغي الرجال والنساء استتيب فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب قتل؛ قال الله عز وجل: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} إلى {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 217]. وقال صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»”.
المذهب الحنبلي:
جاء في المغني لابن قدامة: “المرتد: هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 217]”.
وقال: “وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد. وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ، وأبي موسى، وابن عباس، وخالد، وغيرهم، ولم ينكر ذلك، فكان إجماعا”.
هذا هو بعض ما ورد معبرًا عن رأي الأئمة الأربعة، واستدل هؤلاء بأدلة منها:
١- ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» [متفق عليه].
٢- ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»[رواه الجماعة إلا مسلمًا].
٣ – ما روته السيدة عائشة قَالَتْ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَوِ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ»[أخرجه النسائي بإسناد حسن].
٤- عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.[متفق عليه].
٥- ما رواه عبد الرزاق في المصنف أن ابن مسعود أخذ قومًا ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه: أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوها فخل عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله.
هذه هي الأدلة التي يحتج بها من يقول بالحد.
ثانيًا: من أنكر الحد :
ويمثل هؤلاء جملة من أهل العلم حديثًا ممن نظر في الأمر في ضوء مقاصد الشريعة، ومفاد رأي هؤلاء أنه لا حد ولا قتل لمجرد ردة مسلم، وإنما قد تقع عقوبة لسبب آخر، كأن يقع مع الردة محاربة للإسلام وأهله، أو إفساد في الأرض، أو تهديد للسلام الاجتماعي ؛ فإذا كان ذلك فإن العقوبة لا تقع حدًّا، وإنما تكون من باب السياسة الشرعية وبحكم ولي الأمر رعاية لجملة من الحقوق، أما الردة فقط فلا يترتب عليها حد.
واستدل هؤلاء بأدلة من القرآن وغيره نذكر منها:
١- الآيات التي تحدثت عن عدم الإكراه في الدين:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: 256].
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29].
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية: 21-22].
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص: 56].
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99].
وغيرها من الآيات التي تبيح الاختيار ولا تشي بعقوبة دنيوية للمخالف.
٢- استدلوا أيضا بفعل النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لم يقتل مرتدًّا قط لردته، فقد ارتد عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولَم يقتله، وقصته مشهورة وفيها أنه لما نزلت الآية التي في المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ}[المؤمنون: 12] دعاه النبي فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}[المؤمنون: 14] عَجِب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله: «كذا أُنزلت عليّ» فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقًا، لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبًا لقد قلت كما قال. فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين… فلما دخل رسول الله مكة أمر بقتله وقتل عبد الله بن خَطَل، ومِقْيس بن صُبابة ولو وُجدوا تحت أستار الكعبة. ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له، فصمت رسول الله طويلًا ثم قال: «نعم». فلما انصرف عثمان قال رسول الله: «ما صَمَتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه». فقال رجل من الأنصار: فهلَّا أومأتَ إليَّ يا رسول الله، فقال: «إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين».
ووجه الدلالة أنه لو كان هناك حد للردة لما احتاج النبي إلى الإيماء أو اجتهاد الصحابة ولطبق الحد ولَم يقبل توبته.
وارتد عبيد الله بن جحش فتنصر ولَم يطلب من النجاشي أن يرسله أو يقتله.
٣- واستدلوا أيضا بحديث الأعرابي وهو عند البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أعرابيًّا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي. فأبى ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي. فأبى، فخرج الأعرابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا».
قالوا: هذا الأعرابي أراد ترك الإسلام فلم يجز له النبي كما ورد عند بعض الشراح، فخرج بنفسه ولَم يرسل النبي من يقتله حدًّا.
٤- لم يقتل النبي أحدًا من المنافقين مع معرفته بهم واحدًا واحدًا، بل رفض قتل عبد الله بن أبي ابن سلول، ولَم يقتل الرجل الذي قال فيه: «إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».
والحديث من رواية أبي سعيد الخدري وفيه: “بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً»، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الْإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ»، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟، فَقَالَ: «لَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي»، قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ، فَقَالَ: «إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ»[رواه الشيخان].
فمع أن الرجل رد أمر النبي وعاب فيه وهو كفر فقد عامله النبي بظاهره، ورد أمر النبي واتهامه كفر وردة.
إلى غير ذلك من الأدلة التي أوردها نفاة حد الردة.
والذي نختاره نحن وندين لله به أنه لا حد للردة، وأنَّ تركَ دين الإسلام لغيره كفرٌ، ولكن لا يستوجب العقوبة في ذاته، إلا أن يكون معه أمر آخر يستوجب العقوبة، والعقوبة حينئذ تقدر بقدرها، ودليلنا على هذا بالإضافة إلى ما سبق الآتي:
١- أن عقوبة كبيرة مثل القتل لا يجب أن تغيب عن القرآن الذي تكلم عن عقوبات أقل قسوة، مثل الجلد والقطع، لا سيما أن القرآن فصل في مواضع وذكر عقوبة القتل ؛ فذكرها في القصاص، وفي الحرابة.
-وعليه: فلا يعول في هذا على روايات مثل التي وردت في أمر تتعلق به حياة الإنسان التي يجب حفظها على اعتبار أن ذلك مقصدًا من مقاصد الشريعة.
٢- أن الآية التي تكلمت عن الردة في القرآن جاءت خالية من العقوبة الدنيوية وتكلمت فقط عن العقوبة الأخروية، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 217].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة: 54].
فهنا أحبط العمل ولَم يرتب على ذلك عقوبة، وكان حق العقوبة أن تذكر هنا وفي الأخرى تكلم عن الاستبدال.
٣- أن الله سبحانه قال في موضع آخر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا }[النساء: 137].
والسؤال: إذا كانت عقوبة المرتد القتل ؛ فكيف يعيد كرة الكفر بعد الإسلام، والأصل أنه بعد كفره الأول، أن يقام عليه الحد إن وجد.
ومثله قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}[آل عمران: 90]. حيث رتب عقوبة أخروية.
٤- ما رواه مسروق في سبب نزول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256].
قال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان، فتنصرا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام، فأتاهما أبوهما، فلزمهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} فخلى سبيلهما.
والشاهد: أنه لو كان هناك عقوبة لما تركهما النبي بعد الإصرار على الكفر.
٥- إن نص آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قطعي في الثبوت والدلالة وعام لا يقبل التخصيص؛ إذ النفي فيه للجنس مطلقا بكافة صوره.
وتطبيق حد الردة أو التهديد به نوع من الإكراه، إذ كيف يحفظ المرء حياته من القتل حدًّا، ويحفظ اختياره دون إكراه.
٦- وجود مثل هذا الحد ينتج مجتمعا منافقا خائفا، إذ يلزم منه أن يخاف الناس من تغيير دينهم حتى لو كانوا غير مقتنعين به، فيصير مؤمنا بلسانه كافرا بقلبه، وهذا حال المنافقين، وهو أشد من الكفر، وهو أيضا يظهر ضعف الإسلام أمام غيره، فيصير أنه لما عجز الإسلام عن الإقناع بنفسه وتعاليمه لجأ إلى العنف لجبر الناس.
٧- إن الأدلة التي استدل بها المثبتون قابلة للتأويل وليست محكمة، فمثلا :حديث «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فيه عموم، إذ التركيب الإضافي لا يخص المسلمين فقط، بل عام في كل دين، وفي كل مبدل، وعليه فإذا تهود النصراني انطبق عليه، وإذا تنصر اليهودي انطبق عليه، ومن أراد أن يخصصه يلزمه الدليل ؛ لأن النبي في نظائره كان أكثر تحديدا كما قال مثلا: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا..) فقيده بالإضافة والإشارة.
والمعلوم أن الإسلام لا يتدخل إذا غير أحد أصحاب الأديان الأخرى دينه، يقول ابن عابدين في الحاشية: “لَوْ أَنَّ الْيَهُودِيَّ تَنَصَّرَ أَوْ تَمَجَّسَ أَوْ النَّصْرَانِيَّ تَهَوَّدَ أَوْ تَمَجَّسَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْعَوْدِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ”.
وحديث «التارك لدينه» فيه ترتيب العقوبة على أمرين معا «التارك لدينه المفارق للجماعة» فترك الدين وصف منشئ، وترك الجماعة وصف منشئ، وإلا لما كان له معنى إذ كل مرتد مفارق للجماعة بالتبعية ؛ فيصير في الكلام وصف بلا معنى، والذي نحمله عليه أن ترك الجماعة معناه أن المفارق للجماعة هو الخارج على نظامها قاصدًا الإضرار بها، وليس مجرد تركه لدينها.
فمن ترك الإسلام بصورةٍ فرديةٍ ليس فيها الاستهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين، وإنما منبعها الوحيد شعور “المرتد” بعدم الاقتناع بالإسلام والاقتناع بغيره، فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية، فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس مهددا للسلم الاجتماعي وإن كان عمله كفرًا.
إن حديث «التارك لدينه» السابق ليس له عموم، إذ عندنا في المذهب الحنفي أنه لا حد على المرأة، فالْمُرْتَدَّةُ لاَ تُقْتَل بَل تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ، وَهو قول وافقنا فيه بعض الفقهاء، وذلك لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل الْكَافِرَةِ الَّتِي لاَ تُقَاتِل أَوْ تُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَال، فَتُقَاسُ الْمُرْتَدَّةُ عَلَيْهَا.
قال الزيلعي في تبيين الحقائق: “وَلَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ بَلْ تُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ”.
-وعليه: فلا يبقى لهذا النص عموم عندنا، إذ إنه خصص بحالة المرأة، وكذلك مخصص بزيادة الوصف وهو محاربة الجماعة أو خيانتهم.
٨ – أن القول بحد الردة ليس فيه مصلحة أبدا، حيث إن الإسلام يراعي مسألة المعاملة بالمثل، ونحن أهل الإسلام ندعو الناس لدين الإسلام ونقبل إسلامهم وننكر قهرهم على دينهم، وندعو أن يترك لهم حرية الاختيار، وندافع عنهم إن وقع عليه ضغط من الكنيسة أو عائلتهم مثلا، في المقابل لا بد أن نقبل الأمر بنفس الروح والعدل، ونترك الأمر للأفراد أن يختاروا ما يشاؤون من الأديان، ثم يكون التعاطي معهم على حسب اختيارهم في المعاملات والديانة لا بالقتل أو التهديد.
– وعليه: فالذي أراه أنه لا يجب أن تكون هناك عقوبة بدنية لمجرد تغيير الدين، بل يترك ذلك للأفراد، وأن النصوص متظاهرة في تأييد هذا من القرآن والسنة وفعل الصحب، وأن العقوبة لا بد أن تترتب على فعل آخر غير تغيير الدين، كأن يصاحب الردة خيانة للأمة وإعانة للأعداء، أو أن ترتبط بتهديد السلم الاجتماعي بين الناس وإشعال الفتنة، أو سب الأديان أو غيرها مما يستوجب العقوبة.
هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر