(ف21) سمعت أحد الشيوخ يضعف حديثًا في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» فما حكم العمل بالحديث الضعيف؟

أولا: أنا أتعجب ممن يضعف حديثا ذكره الإمام مسلم في صحيحه، وشرحه النووي في شرحه على مسلم. وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» قال الشيخ المذكور على حسب ما نقل عنه البعض: حديث: «لا يشربن أحدكم قائمًا فمن نسي فليستقئ» رواه مسلم وإسناده ضعيف فيه عمر بن حمزة، قال عنه أحمد: أحاديثه مناكير، وضعفه ابن معين والنسائي.
وعليه فقد رد حديثا عند مسلم وهو من أصح الكتب بعد القرآن، ومع ذلك فأنا لا أعرفه لأحكم عليه في علمه، ولن آخذ كلاما مكتوبا في بعض المواقع إلا أن تكون هناك دراسة مفصلة الأسانيد والرجال وكلام السادة العلماء من المذاهب المتعددة.
ثانيا: أنا لا أدعي أني عالم في علم الجرح والتعديل وعلم الأسانيد بل أنا لا أدعي أني قطعت فيه شوطا يسمح لي بالحكم على الروايات، وأنا في غالب أمري أقلد الأئمة الأطهار في تصحيحهم وتضعيفهم، اللهم إلا ما يسره الله لي من الروايات التي تتبعتها في مظانها ووصلت فيها إلى حكم بالقبول أو الرد وهي منشورة في رسالتي للدكتوراه وأبحاثي العلمية المنشورة، وعليه فلست في موقع الرد هنا من جهة الأسانيد لكثرة ما ورد.
ثالثا: ضعف الحديث أو الرواية بعامة لا يعني تركها وعدم العمل بها كما أن صحة الرواية لا تعني العمل بها. فقد يكون الحديث ضعيفا ولكنه يقع تحت أصل عام مطلوب مرغوب فيعمل به، وقد يكون الحديث صحيحا ولا يعمل به للمعارضة بما هو أصح منه أو للنسخ، وهذا مشهور في كتب الفقه والسنة. ومنه حديث مسلم السابق فمع صحته وروايته عند مسلم إلا أنه منسوخ بشربه صلى الله عليه وسلم واقفا أو أن النهي للكراهة التنزيهية؛ قال الإمام النووي رحمه الله: (وليس في هذه الأحاديث بحمد الله إشكال ولا ضعف بل كلها صحيحة والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائما فبيان للجواز).
رابعا: اختلف السادة العلماء في حكم الاستدلال بالضعيف والعمل به وها هي الآراء:
المذهب الأول: لا يجوز العمل به مطلقًا، وإليه ذهب أبو بكر بن العربي، وحكاه ابن سيد الناس عن يحيى بن معين، وهو مذهب ابن حزم الأندلسي، والشهاب الخفاجي، وجلال الدين الدواني وغيرهم.
المذهب الثانـي: يجوز العمل بالحديث الضعيف مطلقًا، وعُزي ذلك إلى عبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وأبي داود السجستاني والإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنهم- وأنهم يرون ذلك أقوى من رأي الرجال، وهذا يحمل على الحديث الضعيف ضعفًا يسيرًا، لا على الضعيف ضعفًا شديدًا أو موضوعًا، وقالوا ذلك لأن الحديث الضعيف يحتمل الإصابة، حيث لم يعارضه شيء، وهذا يقوي جانب الإصابة في روايته فيعمل به.
المذهب الثالث: يجوز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل العملية والمواعظ والقصص ونحو ذلك مما ليس لـه تعلق بالعقائد والأحكام، بشروط متفرقة في كلام أهل العلم، وهذا هو قول الجمهور والمعتمد عند الأئمة المحققين، وحكى الاتفاق عليه بين العلماء الإمام النووي وهو أول من شهر هذه المسألة بهذه الصورة، والشيخ ملا علي القاري، وابن حجر الهيثمي، والسيوطي، وابن عرَّاق -رحمهم الله تعالى-. فها نحن نرى أن الرأيين الثاني والثالث يجيزون رواية الضعيف والعمل بمقتضاه، وهذا النووي يقول أنه باتفاق العلماء يجوز رواية الضعيف في الفضائل والمواعظ والقصص وغيرها مما لا يتعلق بالعقائد أو الأحكام. وعليه فليس الوصف بالضعف قادحا قدحا مطلقا يستوجب ترك الرواية وإلا كنّا تركنا كتبا لأئمة كبار واتهمناهم في الرواية وعلى رأس هؤلاء البخاري نفسه وقد روى الضعيف في كتابه الأدب المفرد، والإمام أحمد في المسند وأبو داود وغيرهم ممن كثرت الروايات الضعيفة في كتبهم.
بل أزيد وأقول: إنه لولا الروايات الضعيف أحيانا ما فهمنا الروايات الصحيحة؛ فقد يُروى الحديث في الرواية الصحيحة ناقصا، وتأتي الرواية المحكوم عليها بالضعف فتزيل الالتباس ولولاها ما فهمنا المقصود كحال القراءة الشاذة مع الصحيحة أحيانا.
خامسا: إذا أنعمنا النظر فيما نقله الأخ السائل عن الشيخ المذكور نجد أنها في معظمها آثار عن الصحابة والتابعين والأئمة الأطهار، أو نجدها روايات تاريخية ذكرها أهل التواريخ في كتبهم كابن الأثير وابن كثير وابن عساكر والخطيب وغيرهم، وهذه روايات يصعب الحكم عليها سندا؛ لأن تتبعها من الصعب بمكان، ولأنها أخبار لا تنشئ أحكاما بل هي في مجملها مواعظ أو أخبار. وأنا أعطي هنا مثالا مهما: أول من كتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هو محمد بن إسحاق بن يسار، ومن جاء بعده نقل عنه كالواقدي وابن هشام وسيف بن عمر وغيرهم، وسيرته عن النبي مشهورة مطبوعة ويرجع إليها الناس، ومع ذلك فقد اختلف الناس في أمره؛ فمنهم من جعله أمير المؤمنين في الحديث وقالوا عنه: إنه من أحفظ الناس. ومنهم من نزل بقدره ورد روايته واتهمه بالقدرية والتشيع والتدليس والكذب، وقد ذكره ابن حجر في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين. بل أزيد من ذلك إن الإمام مالكا قال عنه: دجال من الدجاجلة ( كان بين الإمامين منافرة وخلاف شديد وطعن كل منهما في الآخر وهذا مشهور). وكذلك صححه علي بن المديني ورفضه الإمام أحمد. وما يقال عن ابن إسحاق يقال في غيره، فقل لي بالله عليك هل ننفي أحداث السيرة النبوية لمجرد اختلاف الناس في رأس من كتب السيرة والنَّاس فيها عيال عليه؟!
سادسا: أنا والحمد لله أستطيع أن أتتبع كثيرا من الروايات المذكورة، ولكني سأختار واحدة، وهي قصة سيدنا عمر مع الرجل الذي جاء يشتكي له زوجته، قال الشيخ تعليقا عليها: ذكرها السمرقندي بلا إسناد.
وأنا أقول أولا: هي خبر عن عمر وليست حديثا نبويا فحتى مع صحتها لا يتوجب بها واجب ولا يحرم بها شيء لأنها من اجتهاداته -رضي الله عنه-، وكذلك فعل عمر فيها لم يخالف ظاهر القرآن وأحاديث النبي في استعمال الرفق والتماس الأعذار وخصوصا مع النساء فتقوى بذلك.
إن القصة وردت بروايات متعددة بعضهم ذكر الرجل منكرا وبعضهم صرح باسمه، وهو جرير بن عبد الله البجلي.
وثانيا: إن قول الشيخ وردت عند السمرقندي ويقصد به سيدنا الإمام الحنفي أبا الليث نصر بن محمد السمرقندي في كتابه “تنبيه الغافلين” في باب حق المرأة على الزوج، أقول: بل أوردها غير السمرقندي فذكرها محقق الدنيا في الحديث ابن حجر الهيتمي في كتابه “الزواجر عن اقتراف الكبائر” في الجزء الثاني ص ٥٠ والكتاب طبعته قديمة، وكذلك نقلها البيجرمي من علماء الشافعية في حاشيته على “شرح المنهج” في الجزء الثالث ص٤٤١-٤٤٢. وغيرهم كثير، وعدم ذكر السند لا يقتضي الضعف، وإلا كانت معلقات البخاري كلها ضعيفة. وثالثا: ورد ما يؤيد هذه القصة فيما رواه عبد الرزاق في “المصنف” وابن أبي شيبة في “المصنف” والبوصيري في “إتحاف الخيرة” والطبراني في “الكبير” وغيرهم؛ قالوا: جاء جرير بن عبد الله رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه يشكو إليه ما يلقى من النساء، فقال عمر: إنا لنجد ذلك حتى إني لأريد الحاجة، فيقال لي: ما تذهب إلا إلى فتيات بني فلان تنظر إليهن، فقال له عند ذلك عبد الله بن مسعود: أما بلغك أن إبراهيم شكى إلى الله -عز وجل- خلق سارة فقيل له: إنما خلقت من ضلع فالبسها على ما كان فيها ما لم تر عليها خزية في دينها، فقال له عمر: لقد حشا الله بين أضلاعك علمًا كثيرًا. فهذا عمر كان محل اتهام بالباطل في الرواية الأخيرة على دينه وورعه من نسائه.
سابعا: أنا في الحقيقة أستغرب من هذا الذي قضى وقته في تتبع هذه الروايات ثم خرج علينا بالتنبيه على ضعفها وكأن من يرويها خَرَقَ خرقا في الدين وارتكب ما يهدم الإسلام مع أنها في مجملها عظات. ما المشكلة في رواية قصة وامعتصماه وهي حادثة تاريخية حدثت في القرن الثالث الهجري لا سيما أن المعتصم قد قام حقا بغزو الروم وتدميرهم وإذلالهم؟! ولماذا يستبعد حدوث القصة مع تواتر ورودها في كتب التاريخ والتراجم؟! ومع ذلك فأنا أسأل أين الأسانيد المتصلة في أحداث أخرى كالمواقع الكبرى في التاريخ مثل عين جَالُوت وحطين وملاذ كرد والزلاقة والأرك وغيرها. أليست تاريخا مرسلا يجوز لنا أن نأخذه ما دام لا يخالف أصلا من أصول الدين.
ثامنا: أريد أن أختم مقالتي هذه بالقول أن هناك تيارا دينيا في هذه الأيام يقوم بالهدم ولا يقوم بالبناء بدعوى التحوط والتحقيق. والحق أني لا أرتاح لهذا التيار النظري الظاهري الذي يقدس مسألة السند ويهمل المتن فيصحح ما يندى له الجبين ويهدم هذا الدين ويشكك في سيد المرسلين كحادثة الغرانيق وقصة زينب بنت جحش وغيرها مما يطعن في الوحي ومقام النبوة على حين ينفي كثيرا من الروايات متذرعا بالضعف أو عدم الإسناد. أليس الأحرى بهولاء أن يذكروا ما يؤمنون بصحته تعليما للناس؟! انظر لمن يقرأ هذه القصص والحكايات ويرى الشيخ يحكم عليها بالضعف مع انتشارها وشهرتها ما يكون منه في غيرها. لا بد أن نصرف جهدنا في البناء لا الهدم، ولَكِن البعض لا يتميز إلا بالطعن والغمز حتى يكون له مكان بين أهل العلم.
(وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَنْ هَذَا؟ بِضَائِرِهِ …………. الْعُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أَنْكَرْتَ وَالْعَجَمُ)
تاسعا: للإنصاف هناك بعض الروايات التي تقدح في الصحب الأطهار كقصة عمر في وأد ابنته لا بد من إظهار بطلانها لأنها تغمز في شخص عمر العظيم -رضي الله عنه- ومثلها ما كان يقدح في الصحب أو الأئمة الأطهار. هذا، والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر