(ف210) عندي سؤال دائمًا ما يشغلني بخصوص المسائل المتشابهة، هل إذا اختار الشخص أنه لا يشتري بيتًا للخروج من اختلاف العلماء، فهل هو بذلك أقرب إلى الله (اتقى الله ما استطاع) أم هو متشدد (كما فعل بنو إسرائيل مثلا)؟ ومثل ذلك حكم الأكل بالمطاعم غير الإسلامية، حيث إنه يوجد فتاوى تجيز ذلك، فهل من يتجنب كل ذلك بنية الخروج من خلاف العلماء هو أفضل عند الله أم لا؟

أولًا: من حق المسلم صاحب النظر في الأدلة أن يختار منها ما يوافق الاجتهاد ، سواءً كان أمرًا متفقا عليه أو مختلفًا فيه؛ لأن العمدة في الباب ليس حصول الاجتماع ، بل تحقيق المناط.
ثانيًا: ليس كل خلاف شرًّا لكونه خلافًا، ولكن خلاف الشر هو ما وقع بسبب الهوى والغرض وغاب عنه الدليل.
وقد وقع الخلاف بين الصحابة ولم يعده النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم شرًّا، بل أقر المتخالفين في كثير من الأحيان، ولذلك أمثلة:
– مثلا قضية صلاة العصر في بني قريظة، يمكن أن يدعي مدَّعٍ أن التحوط يقتضي وقوع الصلاة في وقتها، بخلاف من أخذ بظاهر النص لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [النساء: 103]، ومع ذلك أقر النبي من أخرها عن وقتها.
– حديث الرجلين الذين تيمما ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فقال النبي للذي لم يعد: «أصبت السنة»، وقال للآخر: «لك الأجر مرتين». ومقتضى التحوط أن يعيد، ومع ذلك السنة الأخذ بالرخصة لمن يرى التيمم رخصة.
– خلاف هشام بن حكيم بن حزام مع عمر في قراءة سورة الفرقان وقول النبي لكل منهما «كذلك أنزلت» ومقتضى التحوط أن يقرأا بصورة واحدة لكونهما قرشيين.
والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا.
ثالثًا: لو اعتبرنا مذهب التحوط أنه طريق السلامة في حياة المسلم لأبطلنا باب التنوع والاختلاف ، ولصار العمل على الأشد في كل الأحوال، وسيكون المقدم دائما هو المنع، والحظر، والحرمة؛ لأن هذه الأشياء تمنع من مباشرة الأفعال، ولا يخفى ما في هذا من تشدد لم تأت به السنة، والحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان محتملا أخذ بالأوفق والأيسر، مع أن التحوط يقتضي الأخذ بالأشد.
رابعًا: نحن نستن بسنة الصحابة وسنة الأئمة الأطهار، فهل كانت عبادتهم تحوطًا؟
– أم أنهم كانوا يجتهدون فيما يرونه موافقًا للشرع؟
– لماذا لم يترك الشافعي قنوت الفجر تحوطًا؟
– ولماذا لم يقل الحنفي بوجوب الولي في الزواج تحوطا؟
– ولماذا لم يوجب ابن تيمية الطهارة في طواف المرأة الحائض تحوطًا؟
– ولماذا لم يحمل الجمهور القرء على الحيض تحوطًا (باعتبار أن اعتبار الحيض يطيل مدة العدة وفرصة للمراجعة)؟
– ولماذا لم يمنع الأئمة عقد الاستصناع تحوطًا مع احتمال الغرر؟
خامسًا: الخلاف نوعان:
خلاف معتبر، وخلاف غير معتبر، وضابطهما ما عبر عنه الشاطبي رحمه الله: (إنما يعد في الخلاف: الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف. وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل، أو عدم مصادفته، فلا.
فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها). فما دام هناك دليل ولو مظنون فهو خلاف معتبر، ومن أخذ به فقد قلد إمامًا.
وعليه: فمن أراد أن يأخذ برأي المنع فقد وافق رأيا، ومن أخذ برأي الجواز فقد وافق رأيًا، ولكل مسلم الحق في تقليد من يراه، ولكن لا يحسن به أن يدعي أنه أكثر ديانة ممن قلد رأيا مخالفًا.
المفتي: د خالد نصر