(ف22) ما القول في شخص يعمل الذنب بنية التوبة فيما بعد، يدرك تمامًا ما يفعل وأنه ذنب ويعتقد أنه حين يتوب يغفر الله له، وربما تاب ثم عاد إلى نفس الذنب أو غيره بنفس النية؟

هذا سؤال جيد ويحتاج إلى مقال كامل وأنا أستعين بالله وأقول:
أولا: وجوب التوبة من المعصية سواء كانت الأولى أم كررت. لقد تواترت النصوص قرآنا وسنة تدعو العاصي إلى التوبة وتعلن أن باب التوبة مفتوح للعبد ما لم يغرغر أو تشرق الشمس من المغرب قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]. والتواب صيغة مبالغة تدل على تكرار الفعل مرة بعد مرة، والفعل هنا معصية تستوجب التوبة. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8].
والتوبة النصوح تقتضي ثلاثة أمور:
١- أن تعم جميع الذنوب المفردة والمكررة.
٢- أن تكون حين وقوعها قطعية بمعنى أن لا يضمر التكرار وإن وقع ثانية يقع بالإنشاء لا بالإصرار.
٣- أن تكون التوبة خالصة لوجهه الكريم لا خوفا من فضيحة أو رفعا لملام أو غير ذلك. هذه مقدمة مهمة، ونعود للسؤال: أما حال العاصي الذي ينوي التكرار فله حالات:
الأولى: أن تكون المعصية من الصغائر. وتكرارها عمدا وبنية مسبقة يحولها لكبيرة لا بالفعل ولكن بالإصرار؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ». قال ابن حجر: سنده حسن. فاجتماع الصغائر واحدة أو مختلفات يؤدي إلى الهلكة مع الإصرار مع أن الصغائر من اللمم المغفور كما في سورة النجم والأحاديث: «الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان» وغيرها.
الثانية: أن يكون الذنب من الكبائر كالزنى مثلا ويفعله الفاعل وهو ينوي بعده التوبة، وهذا له أحوال:
١- أنه مستخف بالعقوبة مع إيمانه بها، فهذا وإن لم يكفر لعدم الإنكار إلا أنه على خطر عظيم.
٢- أنه يعلم العقوبة ويُضمر التوبة إلا أنه ضَعِيف أمام شهوته فهذا إن لم يسعفه الله بالوقت فيتوب ومات قبل وقوع التوبة فهو يقع تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء رحمه، وهذا أمر لا يمكن القطع به ودليله: « لاَ يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهْوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ» [متفق عليه]، فهنا وإن كان النفي للكمال لا للأصل إلا أن الوفاة قبل إحداث التوبة يفتح باب العقوبة، وهي الأصل كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7-8].
٣- أن يكون الفاعل شاكًّا هل الأمر يستوجب العقوبة أم لا؟ فهذا أخف، كمن يدخن وهو شاك هل هي حرام أم لا، وإن قلت له بالحرمة تأوَّل رأيا لعالم آخر كي يستر ضعفه، فهذا نرجو أن يكون معفوا عنه لتقليده وتأويله.
٤- أن يكون الذنب موجها لطرف آخر من المخلوقين المكلفين وهذا يعقد المسألة؛ لأنه بغض النظر عن تكراره فالضرر وقع على عبد آخر، والتوبة تقتضي طلب المسامحة وإن لم تقع أخذ الفاعل بالفعل والتكرار معا؛ فمثلا المرأة التي تمتنع عن زوجها بغير عذر شرعي ارتكبت ذنبين: الأول لما خالفت أمر الشرع قرآنا وسنة، والثاني أخلّت بمقتضيات عقد الزوجية ومنه التمكين فهي بذا يترتب عليها ذنب ذو حقوق، وهذه لا تغفر إلا من أصحابها، كما أنها قد تحمل بعض وزر زوجها إن دفعه الامتناع إلى ارتكاب معصية. وأتيت بهذا المثال لأني سمعت بعض النساء لما روجعن في هذا قلن: إن الله غفور رحيم. وهو صحيح في حق الله، وقس على ذلك السرقة والرشوة وغيرها مما يتضرر منه العبد.
الثالثة: أن يقع الذنب من شخص صغيرا أو كبيرا وهو مصر على فعله فهذا عقوبته كبيرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»[أخرجه أحمد في مسنده]. والأقماع جمع قِمع بكسر القاف، وهو آلة لها رأس واسع وذيل ضيق يستعان بها لملء الأواني، والاستعمال هنا كناية عمن يسمع شيئا لا يعي منه شيئا، فهو كالقِمع يمر منه السائل ولا يحتفظ بشيء.
الرابعة: وهناك مرتبة أخرى من مراتب العصاة، وهم الذين يحسنون الظن بالله -حسن الظن يقتضي نية هجر المعصية- ومقتضى ظنهم أن الله واسع المغفرة وأن رحمته ستسعهم وهم يجتهدون في تحصيلها، وإن تكررت منهم مرارا، وتصديق ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» [متفق عليه].
والحديث لا يتناقض مع ما سبق إذ إنه يؤكد على توبة العبد. هذا، والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر