(ف237) ما حكم السفر لزيارة قبر الأب أو الأم؟ وهل زيارة القبور للعظة فقط أم يتضمن زيارة المتوفى؟ وما حكم الزيارة للنساء؟

أولا: الأصل في زيارة القبور سواء كانت لأقارب أو لغيرهم أنها مستحبة على رأي المذاهب الأربعة، وحكى النووي في المجموع عن العبدري أنها سنة بالإجماع، والصواب أنه ليس فيها إجماع كما نقل ابن بطال في شرح البخاري: (كَرِهَ قوم زيارةَ القبور، لأنَّه رُوِيَ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أحاديثُ في النهيِ عنها، وقال الشعبيُّ: لولا أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن زيارَةِ القبور لزُرْتُ قَبْرَ ابنتي، وقال إبراهيم النَّخَعي: كانوا يكرهونَ زيارةَ القبور، وعن ابن سيرين مثلُه)، ومثله نقله ابن حجر في الفتح حيث قال: (قال النوويُّ تبعًا للعبدري والحازمي وغيرهما: اتَّفَقوا على أنَّ زيارةَ القبورِ للرِّجالِ جائزةٌ، كذا أطلقوا، وفيه نظَرٌ؛ لأنَّ ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابنِ سيرين وإبراهيم النَّخَعي والشَّعبي الكراهةَ مُطْلَقًا، حتى قال الشعبيُّ: لولا نَهْيُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لزُرْتُ قبر ابنتي؛ فلعلَّ مَن أَطْلَقَ أراد بالاتِّفاق ما استقرَّ عليه الأمرُ بعد هؤلاءِ، وكأنَّ هؤلاء لم يَبْلُغْهم الناسِخُ، والله أعلم).
واستدل الجمهور بأدلة منها:
– ما رواه مسلم بسنده عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».
– وكذلك بحديث عائشة عند مسلم أن النبي كان يزور البقيع آخر الليل. وفيه مقبرة المدينة .
– ومنه استئذانه صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أبيه وأمه ووقوع الإذن. كما في حديث مسلم.
ثانيا: الزيارة كما هي للموعظة هي لزيارة المتوفى والدعاء له، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم آداب الزيارة ومنها:
– السلام عليهم كما في الحديث الذي رواه مسلم عن بُريدة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمهم إذا خرَجوا إلى المقابر أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله لَلاحِقون، أسأل الله لنا ولكم العافية».
– أن يدعو لهم؛ لأنه دعاء بظهر الغيب، وفي الحديث: «دعوةُ المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابةٌ، عند رأسه مَلَكٌ موكَّلٌ، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكَّل به: آمين، ولك بمِثل» [رواه مسلم] ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله، إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [رواه مسلم].
ثالثا: اختلفت آراء المذاهب في حكم زيارة القبور للنساء على ثلاثة آراء رئيسة:
الأول: الإباحة كما هو الحال في الرجال، وهذا مذهب السادة الأحناف ورأي عند المالكية والشافعية ورواية عن أحمد، واستدلوا بنفس الأدلة التي ذكرناها من قبل، وقالوا: النسخ يشمل الرجال والنساء معًا، وحصول الموعظة مطلوب لهما معًا.
واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم وغيره عن عبدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيكةَ، أنَّ عائشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أقبلَتْ ذاتَ يومٍ من المقابِرِ، فقال لها: يا أمَّ المؤمنينَ مِن أينَ أقبَلْتِ؟ قالت: مِن قَبرِ أخي عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ. فقال لها: أليسَ كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن زيارَةِ القبورِ؟ قالت: نعم، كان نهى، ثُمَّ أَمَرَ بزيارَتِها .
الثاني: أن الزيارة للنساء محرمة وهو رأي ابن تيمية وقول عند الأحناف والشافعية، واستدلوا بحديث أبي هريرة: “أن النبي لعن زوارات القبور” [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح]. واعتبروا أن النسخ وقع في حق الرجال فقط ، حيث لا دليل على تأخر الناسخ عن المنسوخ.
الثالث: القول بالكراهة وهو قول الجمهور؛ فهو قول عند الأحناف وقول عند المالكية وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة، بل حكى ابن عبد البر الإجماع قال: (ولا خلافَ في إباحَةِ زيارةِ القبورِ للرِّجالِ، وكراهِيتِها للنِّساء) [الاستذكار]. ولا يخفى ما في دعوى الإجماع من ضعف.
واستدل هؤلاء بحديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَرَّ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: «اتَّقِ اللهَ واصْبِرِي» [رواه البخاري ومسلم]، قالوا: لم يمنعها ولكن وعظها بالصبر دلالة على الكراهية.
وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أمِّ عطيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: “نُهِينا عنِ اتِّباعِ الجَنائزِ ولم يُعْزَمْ علينا”، فينصرف النهي إلى الكراهة.
والذي نختاره هو رأي السادة الأحناف وأن الزيارة مشروطة للجميع باتباع آداب الزيارة، ومنها الالتزام بعدم الصياح والعويل والندب، وهذا يشمل الرجال والنساء، ومنها آداب اللباس، وهذا أيضا يشمل الرجال والنساء.
المفتي: د خالد نصر