(ف249) هل إخفاء الحقيقة لاتقاء أمرٍ ما جائز شرعًا كما فعل سيدنا يوسف ليكيد لأخيه وأخفى صُوَاعَ الملك واتهمه بالسرقة ليأخذه في دينه، أم كان وحيًا لا يشرع لغيره؟

أولًا: ما فعله سيدنا يوسف بشأن إخوته يدخل في باب الحيل المباحة لإثبات الحق، أو إقامة الحجة، بشرط ألا تهدم أصلًا شرعيًّا، ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها؛ مثل النطق بكلمة الكفر إكراهًا؛ قال الزمخشري في الكشاف: (… وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية, التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية, كقوله تعالى لأيوب عليه السلام : ﴿‌وَخُذْ ‌بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ [ص: 44] ليتخلص من جلدها ولا يحنث … وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد. وقد أعلم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف, مصالح عظيمة, فجعلها سلمًا وذريعة إليها, فكانت حسنة جميلة, وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا).
يقول الحموي الحنفي: (مذهب علمائنا أن كل حيلة يحتال بها الرجل لإبطال حق الغير أو لإدخال شبهة فيه أو لتمويه باطل فهي مكروهة -تحريمًا- وكل حيلة يحتال بها الرجل ليتخلص بها عن حرام أو ليتوصل بها إلى حلال فهي حسنة).
ومن أمثلة حيل التخلص الواردة أيضا في القرآن الكريم قوله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام: ﴿ ‌وَخُذْ ‌بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44] وهو تخلص من لازم اليمين.
ومثله في الحديث ما رواه سعيد بن سعد بن عبادة، قال: كان بين أبياتنا إنسان مخدج ضعيف، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها، وكان مسلمًا، فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اضربوه حده» قالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، إن ضربناه مائة قتلناه قال: «فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة، وخلوا سبيله».
فهذا قد زنى ووجب عليه الجلد، ولكنه إن جلد مات لضعفه فاحتيل له.
ثانيا: قول الحقيقة ليس واجبًا في كل وقت؛ لأن الشهادات تختلف، فهناك شهادة التحمل، وهناك شهادة الأداء.
فشهادة التحمل مثلا تكون في العقود؛ كعقد الزواج، وعقود البيع والقرض وغيرها، وهذه شهادات للإثبات وليست للإعلام، وهناك الشهادة أمام القاضي وهي شهادة الأداء.
أما الأول: فلا يتوجب الجهر به، وأما الثاني فلا يجوز كتم الحق لقوله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تَكْتُمُوا ‌الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].
المفتي: د خالد نصر