أولا: قضية الموسيقى والغناء من القضايا التي اختلف فيها الفقهاء قديمًا وحديثا، والخلاف فيها لن ينتهي، ولن يحسم كما يعتقد البعض، وما ذاك إلا لتعارض ظاهر بعض أدلة السماع، وكذلك لما حشدت به كتب الفقه التي كانت تتعامل مع الأمرين في كثير من الأحوال، معاملة الحال لا معاملة الدليل والنظر، والحال المقصود أن الموسيقى والغناء كانت مرتبطة بصورة حال معينة تاريخيا؛ فهي مادة الفسق والحانات، وهي التي تشغل الناس عن طلب العلم وطلب مجاهدة العدو.
ثانيا: على عموم البلوى بالموسيقى والغناء في عهد التشريع، لا نجد دليلا واحدا في القرآن صريحا يحرم الموسيقى والغناء، مع أن القرآن قد فصل القول في نظائر عمت بها البلوى كالربا والخمر والميسر، وبعض الآفات الاجتماعية، لا نجد آية واحدة صريحة في تحريم الموسيقى والغناء.
وكل ما يستدل به المحرمون، محتمل للتأويل ولا يثبت بمثله تحريم وإن اجتهد المحرم، بل إن صرف بعض الآيات للغناء تحريما ينزل بالنظم ويضعف المعنى، ويذهب بالعموم.
وسأذكر بعض ما استدل به المانعون مع تفنيد ما استنبطوا:
١ – استدل المانعون بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان: 6].
أولا: هذه الآية لا دلالة فيها على تحريم الغناء لا من جهة النظم، ولا من جهة النظر والتأويل؛ فالآية نزلت في النضر بن الحارث كما نقل البغوي وغيره: قال الكلبي، ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشا، ويقول: إن محمدًا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة. فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله هذه الآية. [تفسير البغوي].
وقال القرطبي: وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه; ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. [تفسير القرطبي].
ثانيا: وردت روايات عن ابن مسعود وابن عباس تفسر لهو الحديث بأنه الغناء، ووردت روايات أخرى تفسره بأنه كل قول باطل، ولا تخلو الروايات التي نسبت التفسير للغناء من مقال في جهة السند، مع ورود التفسير بغيرها (راجع ما كتبه الأستاذ الجديع في بحثه العظيم عن الموسيقى في ميزان الإسلام والدراسة الحديثية التي أقام لها أكثر من ٢٥٠ صفحة).
ثالثًا: بالنسبة لنظم الآية: نقول: حتى وإن سلمنا أن لهو الحديث هو الغناء؛ فهل نص الآية يقول: كل من يستعمل لهو الحديث له عذاب مهين، أم أن النص مقيد بأن من يستعمله لإضلال الناس عن سبيل الله، وكذلك يستعمله استهزاء كما كان يفعل النضر بن الحارث؟
فهل يخطر على بال أحد ممن يغني أي شيء أنه يفعل ذلك لأجل هذا الغرض، فإن فعله كان فعله حراما سواء كان غناء أو شعرا أو رياضة أو تمثيلا أو أي شيء، وإن لم يقصد ما ورد في الآية، كان الفعل على أصل الإباحة.
رابعًا: حتى لو تجاوزنا كل ما سبق، وقلنا الغناء هو لهو الحديث المذكور في الآية، وأنه محرم بلا وصف ولا اشتراط، فكيف جاز للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يستمع لهذا اللهو المحرم، بل ويجيزه في المسجد، وأنا سأذكر فقط رؤوس الأحاديث:
– غناء الجاريتين يوم العيد أمامه وهو جالس.
– زفن الأحباش في المسجد ( غناء مع الرقص).
– المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف وتغني أمامه إن حضر منتصرًا.
– الراعي الذي كان يلعب على الناي.
– الحداء أثناء السفر.
– طلبه الغناء للأنصار في أفراحهم.
والسؤال: هل كان النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لاهيًا أو مشتريا لهو الحديث.
ولعل البعض يقول: هذه مناسبات خاصة يجوز فيها الغناء كالعيد والأفراح.
ونقول: الحرام حرام في كل أوقاته، إلا إذا دعت إليه الضرورة، ولا ضرورة هنا.
قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85]، وقال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم». أي على الطريقة.
وعليه: فهذه الآية لا دليل فيها البتة على تحريم الغناء والسماع ولا المعازف، وما نقله العلماء في تفسيرها، ينصرف إلى الوصف المذكور في الآية (الإضلال، والاستهزاء) كما فعل النضر، أما إن لم يكن فلا ينصرف إليه النص، وهذا يشمل الغناء وغيره.
٢ – استدل المانعون بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]. وهذا من أعجب الاستدلال؛ فاللغو في اللغة: هو كل قول أو فعل باطل، وقد ورد في القرآن على عدة معان منها:
– الأول: اللغو بمعنى القول الباطل، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾
– الثاني: اللغو بمعنى اليمين التي لا يعقد عليها القلب، وإنما تخرج من اللسان من غير قصد ولا تعمد، وعلى هذا قول الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 225].
– الثالث: اللغو بمعنى مكروه الكلام والساقط منه، وعلى هذا قوله سبحانه: ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ﴾ [الغاشية: 11].
ولم يرد لا في القرآن ولا في السنة من قريب أو بعيد ذكر اللغو بمعنى الغناء، ولو كان اللغو بمعنى الغناء فكيف نفهم قوله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]. هل المقصود: وغنوا؟!
وكيف نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت -والإمام يخطب- فقد لغوت». متفق عليه، هل معناه: فقد غنيت؟!
وكيف نفهم قول الشاعر:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمد عاقدات العزائم
هل قصد الشاعر الغناء؟!
فأهل اللغة يقولون: أصل اللغو الصوت، وسواء كان له معنى، أو لم يكن بمعنى، ثم سمي ما يُتكلم به كل جيل لغة، وأصلها لغوة، ثم قالوا: لغو الطائر، ثم لما رأوا ذلك صوتاً لا معنى له، جعلوه أصلاً في كل شيء لا معنى له، فقالوا: لغا فلان يلغو: إذا تكلم بكلام لا معنى له، ثم سموا المـُسْقَط الملغي لغواً؛ لأنه في سبب ما لا معنى له، وقيل: ألغيت الشيء إذا أسقطته. ثم سموا الباطل لغواً، تشبيهًا بالمـُسْقَط الملغي؛ لأن الباطل يسقط مع الحق؛ فلا يكون له ثبات، ويقال للفحش: لغو؛ لأنه ساقط من الكلام مطرح، لا يُلتفت إليه.
أما قول البعض: الغناء من اللغو. فقول باطل يحتاج إلى دليل، وهل يستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللغو؟!
٣ – استدل المحرمون أيضًا بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الإسراء: 64]. على أن الصوت هو الغناء، وهذا ضعيف أيضا من جهة النظم ومن جهة المعنى:
أما من جهة النظم فلأن الفعل فعل الشيطان، والإضافة إليه (صوتك، خيلك، رجلك) فكيف يكون غناء المغني صوت الشيطان وفعله، ولو كان المقصود به الغناء مطلقا، لقال (بالصوت) أو (بالغناء) أما أن يقال: ﴿بصوتك﴾ أي بغناء المغني فهذا ضعيف في النظم.
ولذلك ذهب جمهور المفسرين أن صوت الشيطان هو وسوسته ودعاؤه للشر؛ قال ابن عباس وقتادة: بدعائك إلى معصية الله، وكل داع إلى معصية الله، فهو من جند إبليس. [تفسير البغوي].
وأما من جهة المعنى: فكل ما ورد من ألفاظ هنا جاءت على سبيل المجاز لا الحقيقة، فالشيطان ليس له خيل ولا رجل ولا يشارك الإنسان حقيقة في ماله ولا ولده، بل المقصود: استعمل عليهم كل ما تستطيع من وسوسة، واجمع لذلك أسباب قوتك وفعلك، وكل ما يعينك على ذلك.
والحقيقة أن صرف فعل الشيطان لمعان حسية كالغناء، يجعل البعض يقبل تفسير بعض المفسرين بأن المقصود بقوله تعالى: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾. أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل: “باسم الله” أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل.
وروي في بعض الأخبار: إن فيكم مغربين قيل: وما المغربون؟ قال: الذين يشارك فيهم الجن.
وروي أن رجلا قال لابن عباس: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار؟ قال: ذلك من وطء الجن.
ومثل هذه الترهات التي لا أصل لها لا يمكن أن تقع على هذه الصورة الحسية، ومعظم الناس لا يقول: “باسم الله” في الجماع، فهل نقول: إن البشرية الآن صارت أبناء جن وشياطين وليسوا بأبناء آدم.
والحق أن من يستدل بمثل هذه الآيات، ويأخذ لفظا واحدا، لا يدرك أنه يفسد معنى النص جملة، فقوله تعالى: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ هو نبرته وليس غناءه، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19] هو نهيقها وليس غناءها، وصوت الشيطان هو وسوسته ولا نعرف له صوتا غير ذلك.
٤- ومن الآيات التي استدل بها المحرمون قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ [النجم: 61] على اعتبار أن السمود هو الغناء في إحدى اللهجات العربية.
ومرة أخرى هذا الاستدلال ضعيف متهافت للآتي:
أولا: أن السمود معناه في اللغة هو اللهو والغفلة عن الشيء والمعنى: لاهون غافلون عما يطلب منكم. وهذا ما عليه أهل المعاجم، وحمل المعنى على لغة مفارقة لجمهرة لغات العرب لا يصح في الاستدلال في باب الخلاف، بدون دليل سياقي.
ثانيا: أننا حتى وإن قلنا إن معنى ﴿سَامِدُونَ﴾ هو تغنون وأن السمود هو الغناء، فليس في الآية ما يدل على التحريم، بل غاية ما ورد وصف حالهم، والمعنى أنهم منشغلون عن يوم القيامة بأعمال الدنيا، وأعمال الدنيا فيها الجائز وفيها الممنوع، والآية طلبت منهم بعد هذه الأوصاف السجود لله.
ثالثا: أنه يلزم على من يحرم السمود الذي هو الغناء عنده، أن يحرم الضحك أيضا، وأن يحرم العجب؛ إذ هما مذكوران في نص الآية أيضا: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ﴾ [النجم: 59-61]. فكلها أفعال تأخذ ذات الحكم، فهل يقول عاقل: إن الضحك محرم بنص هذه الآية. فإن قال: الضحك ليس محرما، فكيف يحرم غيره مما ذكر؟!
وبالجملة أقول: إنها قضية مهمة تعم بها البلوى وتنتشر في القديم والحديث، بل كانت مصاحبة لأعمال أخرى كشرب الخمر، لا يرد فيها آية واحدة صريحة، على حين نجد أن الله ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وذكر الحيض، وذكر المآكل المحرمة كالميتة والدم، مع أن النفس تعافهما، ولا يكاد يوجد من يأكلهما، وذكر أشياء أخرى أقل عمومًا وانتشارًا، وبين فيها الحكم الواضح، فإذا جئنا إلى الغناء لم نجد فيه آية واحدة قاطعة تقول: الغناء حرام، أو: لا تغنوا. وقد قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 119].
أما ما ورد في السنة فأقول:
أولا: الأحاديث التي وردت في الغناء والموسيقى على ثلاثة أنواع:
الأول: أحاديث صريحة في التحريم ولكنها ضعيفة في السند والرواية وهذه أكثر الأحاديث.
الثاني: أحاديث صحيحة في السند ولكنها ليست صريحة في التحريم؛ مثل حديث: « يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ».
الثالث: أحاديث صحيحة في السند صريحة في جواز الغناء والموسيقى كالأحاديث التي أشرت إلى رءوسها آنفا.
ولا يوجد حديث صحيح صريح يقول: لا تغنوا، أو حرم عليكم الغناء، ومن لديه حديث صحيح بهذا الوصف فليذكره لنا.
ثانيا: الحديث المشار إليه: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» حديث صحيح عند البخاري وغيره من رواية أبي مالك الأشعري.
والسؤال: هل يدل الحديث بلفظه أو معناه على حرمة المعازف؟
وأقول:
لا يدل الحديث بلفظه ولا معناه على حرمة المعازف للآتي:
١- أن الرواية رواية خبر وليس رواية حكم، ورواية الأخبار لا ينبني عليها حكم شرعي، وغاية ما تشير إليه وقوع حادثة معينة، وذلك ككثير من أخبار علامات القيامة الصغرى والكبرى، كالملحمة الكبرى مثلا، لا يؤخذ منها حكم وجوب قتال الروم في كل زمان مثلا، وكذلك خبر فتح القسطنطينية لا يوجب على المسلمين فتحها، بمعنى أن من لم يسع في فتحها فهو آثم، وغاية ما في الخبر الثناء على من فتحها والبشارة به. وعليه: فلا بد من فهم الفرق بين أحاديث الأحكام وأحاديث الأخبار.
ثانيا: إذا نظرنا إلى الأشياء المذكورة في رواية البخاري نجد أنها جمعت ما هو حرام باتفاق كالزنى والخمر، وذكرت ما هو حلال لبعض الأمة حرام على بعضها كالحرير، فلو كان المقصود إيراد الكل في سياق الحرمة لصار الحرير حرامًا على جميع الأمة بلا استثناء، لقوله صلى الله عليه وسلم «مِنْ أُمَّتِي» وأمته فيها الرجال والنساء والصغار والكبار، ومن المعلوم أن الحرير ليس حراما على النساء ولا على الأطفال لعدم التكليف، فهل يقول قائل: إننا نستطيع أن نستعمل هذا الحديث دليلا على تحريم الحرير على النساء كما يريد استعماله دليلا على تحريم المعازف.
ثالثا: إذا سألت الذين استعملوا هذا الحديث للدلالة على حرمة المعازف، من أين أتوا بالتحريم، قالوا: التحريم أتى من أمرين: قوله: «يستحلون»، والثاني دلالة الاقتران؛ حيث قرن بين الخمر والزنى وبين المعازف في جملة وعطفًا بالواو، فدل على أن الكل يشترك في ذات الحكم.
وأنا سأبين ضعف هذين الأمرين:
أولا: قولهم: «يستحلون» دليل على أنه كان حراما:
وهذا التفسير فيه تجاوز المعنى الكلي لكلمة (يستحل) في السنة؛ فكلمة (يستحل) تأتي بمعنى تجاوز الممنوع كما في قوله صلى الله عليه وسلم: « وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»[رواه مسلم] فالفروج كانت ممنوعة حتى أجازها الزواج الذي هو كلمة الله.
وتأتي أيضا بمعنى فعل الشيء الحلال أصلا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ». فقال: «من حلال استحللناه».
فمن استحلت الحرير، لا لكونه محرما، ولكن لأن الشرع أذن فيه، وكذلك من استحل الغناء لا لكونه حرامًا ولكن لأن الشرع أذن فيه.
وعليه: فكلمة «يستحلون» لا تدل بذاتها على أن المفعول محرم، بل نحتاج لدليل خارجي لإثبات حرمته.
ثانيا: الاستدلال بدلالة الاقتران:
اختلف الفقهاء في الأخذ بدلالة الاقتران والاستدلال بها على قولين:
الأول: ذهب البعض للعمل بها، ومن هؤلاء الإمام أبو يوسف من الأحناف، والمزني من الشافعية، والباجي من المالكية، وأبو يعلى من الحنابلة، قالوا: إذا جمع الله بين أفراد وعم بحكم فللأفراد ذات الحكم.
الثاني: ذهب الجمهور من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة إلى إنكار دلالة الاقتران، وقالوا: إن الاقتران في اللفظ لا يوجب القران في الحكم.
وعلى مقتضى قولهم فإن الجمع بين الخمر والمعازف لا يجعل المعازف حرامًا، بل تحتاج لدليل خاص بالتحريم.
وأنا سأعطي أمثلة هنا تدلل على أن دلالة الاقتران لا تصلح دليلا في المنع أو الإباحة:
١- قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]. فهل تصير العمرة فريضة مثل الحج بدلالة الاقتران في الإتمام؟ (الجمهور على أنها سنة).
٢ – قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8]. فهل اقتران الخيل بالبغال والحمير في الركوب يجعل من أكلها محرمًا كما هو مذهب مالك أو مكروهًا كما هو
رأي الإمام الأعظم رضي الله عنه وأكثر الأحناف؟ مع أن مذهب الجمهور أن لحم الخيل جائز، بل ورد الحديث بجوازه كما في البخاري.
٣- روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ». فهل يفهم من الجمع بين هذه الأشياء الخمسة أنها على درجة واحدة، فنقول: إن الختان للرجل مثل قص الشارب، والجمهور من العلماء على أنه واجب كما هو مذهب الشعبي، وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وشدد فيه مالك؛ حتى قال: من لم يختتن، لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته.
والشاهد أن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم جمع بين أشياء في نص واحد وليس لها ذات الحكم، فبعضها واجب وبعضها مندوب، ومجرد الاقتران لا يعطيها حكما واحدًا.
ومثله حديث: «يستحلون الحر …» جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أشياء بعضها محرم قطعا وبعضها محرم على الرجال دون النساء والأطفال، وبعضها ليس محرمًا أصلا.
4- حديث ابن عمر الذي رواه أبو داود والبيهقي، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
وفي الحديث جمع بين ما هو محرم كبيع العينة عند البعض وبين ما هو جائز كأخذ أذناب البقر والزراعة. فهل يقول قائل: إن الاقتران يدل على وقوع الموعود على كل مذكور بمفرده، فيكون من يزرع مستحقًّا للذل؟!
والسؤال هنا: ما الفائدة من هذا الحديث؟
والفقه السليم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذم الجمع وليس الجميع، فقد أخبرنا عن قوم يفعلون أفعالا بعضها حرام وبعضها حلال يجمعون بينها في مجلس واحد.
ونظير ذلك في القرآن: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68]. فهنا أمران: المجلس، والخوض، والنهي ليس عن المجلس مفردًا، ولكن المجلس الذي اجتمع معه الخوض، ولو انفرد المجلس عن الخوض لجاز لقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾.
ومن قبل: الأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بدليل، فما بالنا إذا وردت الأدلة بوقوع الغناء والعزف في حياته صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للجزء الثاني من السؤال الخاص بالآلات التي يمكن تدريسها إذا كانت الفتوى بالجواز، وهل هناك حرمة لآلات معينة؟
أولا: من تتبع كلام العرب في آلات العزف والموسيقى نجد أنهم عرفوا أنواعا متعددة؛ منها:
1- آلات وترية:
ومنها العود، وكان يستعمله اليهود، وزعموا أن داود كان يضرب عليه، وأنه صنعه من خشب السرو. وكان يسمى عند العرب المزهر.
ومنها الرباب، وكانت العرب تستعمله وكذلك اليهود.
2- آلات النفخ:
ومنها الناي: وقد يسمى اليراع، وعرفته العرب بكثرة وكذلك استعمله اليهود.
والمزمار: وقد يقصد به الناي أيضًا، واشتهر بين العرب واليهود.
والبوق: وكانت تستعمله اليهود.
3- آلات الضرب ومنها:
الدف: ويسمى الطبل والغربال، وقد يكون الدف بصنوج، وقد يكون خاليا منها.
ومنها الكبَر: وهو الطبل الذي له وجهان.
ومنها الصنوج، وكانت تصنع من النحاس وتصر الصوت بقرعها سويًّا، وكانت معروفة عند اليهود والعرب.
ثانيا: كل آلة من هذه الآلات تفرعت عنها آلات أخرى مع تطور الزمن، ومن يقول بحل المعازف لا يفرق بين آلة وأخرى؛ إذ الأصل في الكل الإباحة؛ ما كان معروفًا في زمنه الشريف وما جاء بعده، والحكم ليس لعين الآلة وإنما لوجه الاستعمال.
فليس هناك فرق بين المزمار والساكس مثلا؛ لأن كلاهما يقوم على النفخ، وليس فرق بين العود وبين الكمان وكلاهما وتري.
ثالثًا: استعمل النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم كلمة المزمار في حديث أبي موسى المشهور.
والسؤال: هل أراد النبي بقوله: « لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ». المدح أم الذم؟
والإجابة بالقطع إنه جاء في سياق المدح.
ونقول: هل يمكن أن يُشَبِّهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمحرم في سياق المدح؟
لو كان المزمار محرمًا، هل يصح أن يشبه به في سياق المدح؟!
فمثلا هل يمكن أن يقول لأحدهم: أنت كهبل أو اللات؟ ويقصد العظمة والتبجيل؟!
أو يشبه إنسانا بالخنزير لأنه مثلا كثير الولادة؟!
وقد يقول قائل: نحن نشبه الإنسان بالحيوان في سياق المدح، فنقول: فلان كالأسد.
والجواب أننا نشبه الإنسان بالحيوان في صفة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وهذه الصفة حلال في ذاتها، وفي حالة الأسد هي القوة والشجاعة، وفي حالة الجمل الصبر وقوة التحمل، وفي حالة الغزال الرشاقة والجمال، وهكذا.
وقياسا على ذلك فتشبيه حضرة النبي لأبي موسى لا بد أن يكون قد وقع بشيء حلال أصلا.
وهذا التخريج وقع لنا بالتوفيق ولله الحمد والمنة.
بالنسبة لمن يزعم أن الفقهاء الأربعة اجتمعوا على حرمة المعازف، فبغض النظر عن مسألة صحة النقل عن اجتماعهم على الحرمة أقول:
أولا: يجب أن نعرف أن اجتماع الفقهاء الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة لا يعتبر في ذاته إجماعًا؛ إذ قد يخالفهم غيرهم ممن يعتد بخلافه، وقد وقع. وهناك فرق بين الاجتماع على رأي والإجماع عليه.
ثانيا: مخالفة اجتماع المذاهب الأربعة جائزة إذا قام الدليل على خلاف قولهم، وقد وقع، وسأعطي أمثلة على ذلك:
١- ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يشترط لسجود التلاوة ما يشترط لسجود الصلاة من الطهارة واستقبال القبلة، وطهارة الموضع، وخالف البخاري وروى عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة، وذهب ابن تيمية إلى صحة السجود من غير طهارة، وتابعه الشوكاني.
٢- من أكل أو شرب بعد أذان الفجر ظانًّا بقاء الليل:
ذهبت المذاهب الأربعة إلى أن صومه غير صحيح وعليه القضاء، وخالف ذلك المزني وابن تيمية، وقالوا: صومه صحيح.
٣- الرهان بمساهمة المتراهنين:
ذهب الأئمة الأربعة إلى حرمة الرهان إذا بذل المتراهنون العوض، وعدوا ذلك من القمار، واشترطوا لجوازه وجود المحلل (شخص يدخل في الرهان دون أن يساهم في جائزته).
وذهب ابن القيم لجواز الرهان بالمساهمة، وأبطل اشتراط المحلل
٤- عدة المختلعة:
ذهب الأئمة الأربعة إلى أن عدة المختلعة عدة المطلقة، وذهب إسحاق وابن تيمية إلى أن عدتها حيضة واحدة.
٥- طلاق الثلاث بلفظ واحد:
ذهب الأئمة الأربعة لوقوع الطلاق ثلاثًا باللفظ الواحد، وخالفهم البعض وقالوا: يقع طلقة واحدة. ومنهم ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن وضاح.
بل خالف البعض وقالوا: إنه لغو لا يقع حتى واحدة. وهو مذهب الظاهرية وهشام بن الحكم.
٦- بيع المعصور بأصله:
المذاهب الأربعة أنه لا يجوز بيع أصله بعصيره، كالسمسم بالشيرج، والعنب بالعصير؛ لأنه إذا عصر الأصل نقص عن العصير الذي بيع به. وأجازه ابن تيمية.
٧- بيع حلي الذهب المصوغ بغير المصوغ متفاضلا:
اتفق الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله ـفي المشهور عنهمـ على تحريم بيع حلي الذهب بآخر متفاضلا ومؤجلا، وعدّوا هذه المعاملة من قبيل الربا، ونقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك، مثل ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي.
وخالف ابن تيمية وابن القيم وأجازا بيعه متفاضلا، وأن الفضل بمقابل الصنعة.
وسأكتفي بهذه الأمثلة، ولو شئت لذكرت عشرات المسائل.
ثالثا: بمراجعة كلام السادة العلماء أصحاب المذاهب نجد أنها تنوعت في التعبير عن حكم الغناء والمعازف، ولم تجمع على التحريم، وهذه بعض النقول مما ورد في كتب المذاهب وأفاضل العلماء:
– ورد في بدائع الصنائع لسيدنا الكاساني: (يجوز بيع آلات الملاهي من البربط والطبل والمزمار والدف ونحو ذلك عند أبي حنيفة، لكنه يكره، وعند أبي يوسف ومحمد لا ينعقد بيع هذه الأشياء؛ لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة للفسق والفساد، فلا تكون أموالًا، فلا يجوز بيعها، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الانتفاع بها شرعًا من جهة أخرى بأن تجعل ظروفًا لأشياء، ونحو ذلك من المصالح، فلا تخرج عن كونها أموالًا، وقولهما إنها آلات التلهي والفسق بها، قلنا: نعم هذا لا يوجب سقوط ماليتها كالمغنيات والقيان).
ويقول: (ولو كسرها إنسان ضمن عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يضمن)
– ذكر الذهبي في ترجمة ابن الماجشون (كان يعلم الغناء ويتخذ القيان). (وكان أول من علم الغناء من أهل المروءة).
– يوسف بن يعقوب الماجشون وكان من رواة الزهري وأدركه يحيى بن معين، وقال: (كنا نأتيه فيحدثنا في بيت وجوار له في بيت آخر يضربن بالمعزفة). وعلق الذهبي على رواية ابن معين هذه: (أهل المدينة يترخصون في الغناء، هم معروفون بالتسمح..).
– لما انتقل زرياب للأندلس في عهد عبد الرحمن بن الحكم أنشأ دارًا لتعليم الغناء والموسيقى سماها (دار المدنيات)، وهي معهد موسيقي في قرطبة، يعتبر الأول في الأندلس، تأسس عام 825م، واستمرت الدار قرونا بحضور فقهاء الأندلس من المالكية وغيرهم وفيهم كبار الأسماء المعروفة.
– ومن علماء المدينة المشاهير الإمام عبد العزيز بن أبي سلمة ، قال عنه الخليلي: (يرى التسميع ويرخص في العود).
– عبد الملك بن عبد العزيز مفتي زمانه ومن أصحاب مالك، قال ابن عبد البر: (وكان مولعا بسماع الغناء ارتحالا وغير ارتحال، قال أحمد بن حنبل: قدم علينا ومعه من يغنيه).
– إبراهيم بن سعد من الحفاظ الكبار وحفيد عبد الرحمن بن عوف قال الذهبي: (كان إبراهيم يجيد صناعة الغناء).
ونقل الخطيب قصته مع بعض أهل الحديث وفيها أنه حلف ألا يروي حديثًا إلا إذا غنى قبله، والقصة مشهورة في كتب التراجم.
فنرجو التدبر وألا نضيق واسعًا، وألا نسارع في المنع دون استقراء الآراء والموازنة.
المفتي: د خالد نصر
ثانيا: على عموم البلوى بالموسيقى والغناء في عهد التشريع، لا نجد دليلا واحدا في القرآن صريحا يحرم الموسيقى والغناء، مع أن القرآن قد فصل القول في نظائر عمت بها البلوى كالربا والخمر والميسر، وبعض الآفات الاجتماعية، لا نجد آية واحدة صريحة في تحريم الموسيقى والغناء.
وكل ما يستدل به المحرمون، محتمل للتأويل ولا يثبت بمثله تحريم وإن اجتهد المحرم، بل إن صرف بعض الآيات للغناء تحريما ينزل بالنظم ويضعف المعنى، ويذهب بالعموم.
وسأذكر بعض ما استدل به المانعون مع تفنيد ما استنبطوا:
١ – استدل المانعون بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان: 6].
أولا: هذه الآية لا دلالة فيها على تحريم الغناء لا من جهة النظم، ولا من جهة النظر والتأويل؛ فالآية نزلت في النضر بن الحارث كما نقل البغوي وغيره: قال الكلبي، ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشا، ويقول: إن محمدًا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة. فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله هذه الآية. [تفسير البغوي].
وقال القرطبي: وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه; ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. [تفسير القرطبي].
ثانيا: وردت روايات عن ابن مسعود وابن عباس تفسر لهو الحديث بأنه الغناء، ووردت روايات أخرى تفسره بأنه كل قول باطل، ولا تخلو الروايات التي نسبت التفسير للغناء من مقال في جهة السند، مع ورود التفسير بغيرها (راجع ما كتبه الأستاذ الجديع في بحثه العظيم عن الموسيقى في ميزان الإسلام والدراسة الحديثية التي أقام لها أكثر من ٢٥٠ صفحة).
ثالثًا: بالنسبة لنظم الآية: نقول: حتى وإن سلمنا أن لهو الحديث هو الغناء؛ فهل نص الآية يقول: كل من يستعمل لهو الحديث له عذاب مهين، أم أن النص مقيد بأن من يستعمله لإضلال الناس عن سبيل الله، وكذلك يستعمله استهزاء كما كان يفعل النضر بن الحارث؟
فهل يخطر على بال أحد ممن يغني أي شيء أنه يفعل ذلك لأجل هذا الغرض، فإن فعله كان فعله حراما سواء كان غناء أو شعرا أو رياضة أو تمثيلا أو أي شيء، وإن لم يقصد ما ورد في الآية، كان الفعل على أصل الإباحة.
رابعًا: حتى لو تجاوزنا كل ما سبق، وقلنا الغناء هو لهو الحديث المذكور في الآية، وأنه محرم بلا وصف ولا اشتراط، فكيف جاز للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يستمع لهذا اللهو المحرم، بل ويجيزه في المسجد، وأنا سأذكر فقط رؤوس الأحاديث:
– غناء الجاريتين يوم العيد أمامه وهو جالس.
– زفن الأحباش في المسجد ( غناء مع الرقص).
– المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف وتغني أمامه إن حضر منتصرًا.
– الراعي الذي كان يلعب على الناي.
– الحداء أثناء السفر.
– طلبه الغناء للأنصار في أفراحهم.
والسؤال: هل كان النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لاهيًا أو مشتريا لهو الحديث.
ولعل البعض يقول: هذه مناسبات خاصة يجوز فيها الغناء كالعيد والأفراح.
ونقول: الحرام حرام في كل أوقاته، إلا إذا دعت إليه الضرورة، ولا ضرورة هنا.
قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85]، وقال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم». أي على الطريقة.
وعليه: فهذه الآية لا دليل فيها البتة على تحريم الغناء والسماع ولا المعازف، وما نقله العلماء في تفسيرها، ينصرف إلى الوصف المذكور في الآية (الإضلال، والاستهزاء) كما فعل النضر، أما إن لم يكن فلا ينصرف إليه النص، وهذا يشمل الغناء وغيره.
٢ – استدل المانعون بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]. وهذا من أعجب الاستدلال؛ فاللغو في اللغة: هو كل قول أو فعل باطل، وقد ورد في القرآن على عدة معان منها:
– الأول: اللغو بمعنى القول الباطل، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾
– الثاني: اللغو بمعنى اليمين التي لا يعقد عليها القلب، وإنما تخرج من اللسان من غير قصد ولا تعمد، وعلى هذا قول الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 225].
– الثالث: اللغو بمعنى مكروه الكلام والساقط منه، وعلى هذا قوله سبحانه: ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ﴾ [الغاشية: 11].
ولم يرد لا في القرآن ولا في السنة من قريب أو بعيد ذكر اللغو بمعنى الغناء، ولو كان اللغو بمعنى الغناء فكيف نفهم قوله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]. هل المقصود: وغنوا؟!
وكيف نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت -والإمام يخطب- فقد لغوت». متفق عليه، هل معناه: فقد غنيت؟!
وكيف نفهم قول الشاعر:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمد عاقدات العزائم
هل قصد الشاعر الغناء؟!
فأهل اللغة يقولون: أصل اللغو الصوت، وسواء كان له معنى، أو لم يكن بمعنى، ثم سمي ما يُتكلم به كل جيل لغة، وأصلها لغوة، ثم قالوا: لغو الطائر، ثم لما رأوا ذلك صوتاً لا معنى له، جعلوه أصلاً في كل شيء لا معنى له، فقالوا: لغا فلان يلغو: إذا تكلم بكلام لا معنى له، ثم سموا المـُسْقَط الملغي لغواً؛ لأنه في سبب ما لا معنى له، وقيل: ألغيت الشيء إذا أسقطته. ثم سموا الباطل لغواً، تشبيهًا بالمـُسْقَط الملغي؛ لأن الباطل يسقط مع الحق؛ فلا يكون له ثبات، ويقال للفحش: لغو؛ لأنه ساقط من الكلام مطرح، لا يُلتفت إليه.
أما قول البعض: الغناء من اللغو. فقول باطل يحتاج إلى دليل، وهل يستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللغو؟!
٣ – استدل المحرمون أيضًا بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الإسراء: 64]. على أن الصوت هو الغناء، وهذا ضعيف أيضا من جهة النظم ومن جهة المعنى:
أما من جهة النظم فلأن الفعل فعل الشيطان، والإضافة إليه (صوتك، خيلك، رجلك) فكيف يكون غناء المغني صوت الشيطان وفعله، ولو كان المقصود به الغناء مطلقا، لقال (بالصوت) أو (بالغناء) أما أن يقال: ﴿بصوتك﴾ أي بغناء المغني فهذا ضعيف في النظم.
ولذلك ذهب جمهور المفسرين أن صوت الشيطان هو وسوسته ودعاؤه للشر؛ قال ابن عباس وقتادة: بدعائك إلى معصية الله، وكل داع إلى معصية الله، فهو من جند إبليس. [تفسير البغوي].
وأما من جهة المعنى: فكل ما ورد من ألفاظ هنا جاءت على سبيل المجاز لا الحقيقة، فالشيطان ليس له خيل ولا رجل ولا يشارك الإنسان حقيقة في ماله ولا ولده، بل المقصود: استعمل عليهم كل ما تستطيع من وسوسة، واجمع لذلك أسباب قوتك وفعلك، وكل ما يعينك على ذلك.
والحقيقة أن صرف فعل الشيطان لمعان حسية كالغناء، يجعل البعض يقبل تفسير بعض المفسرين بأن المقصود بقوله تعالى: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾. أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل: “باسم الله” أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل.
وروي في بعض الأخبار: إن فيكم مغربين قيل: وما المغربون؟ قال: الذين يشارك فيهم الجن.
وروي أن رجلا قال لابن عباس: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار؟ قال: ذلك من وطء الجن.
ومثل هذه الترهات التي لا أصل لها لا يمكن أن تقع على هذه الصورة الحسية، ومعظم الناس لا يقول: “باسم الله” في الجماع، فهل نقول: إن البشرية الآن صارت أبناء جن وشياطين وليسوا بأبناء آدم.
والحق أن من يستدل بمثل هذه الآيات، ويأخذ لفظا واحدا، لا يدرك أنه يفسد معنى النص جملة، فقوله تعالى: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ هو نبرته وليس غناءه، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19] هو نهيقها وليس غناءها، وصوت الشيطان هو وسوسته ولا نعرف له صوتا غير ذلك.
٤- ومن الآيات التي استدل بها المحرمون قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ [النجم: 61] على اعتبار أن السمود هو الغناء في إحدى اللهجات العربية.
ومرة أخرى هذا الاستدلال ضعيف متهافت للآتي:
أولا: أن السمود معناه في اللغة هو اللهو والغفلة عن الشيء والمعنى: لاهون غافلون عما يطلب منكم. وهذا ما عليه أهل المعاجم، وحمل المعنى على لغة مفارقة لجمهرة لغات العرب لا يصح في الاستدلال في باب الخلاف، بدون دليل سياقي.
ثانيا: أننا حتى وإن قلنا إن معنى ﴿سَامِدُونَ﴾ هو تغنون وأن السمود هو الغناء، فليس في الآية ما يدل على التحريم، بل غاية ما ورد وصف حالهم، والمعنى أنهم منشغلون عن يوم القيامة بأعمال الدنيا، وأعمال الدنيا فيها الجائز وفيها الممنوع، والآية طلبت منهم بعد هذه الأوصاف السجود لله.
ثالثا: أنه يلزم على من يحرم السمود الذي هو الغناء عنده، أن يحرم الضحك أيضا، وأن يحرم العجب؛ إذ هما مذكوران في نص الآية أيضا: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ﴾ [النجم: 59-61]. فكلها أفعال تأخذ ذات الحكم، فهل يقول عاقل: إن الضحك محرم بنص هذه الآية. فإن قال: الضحك ليس محرما، فكيف يحرم غيره مما ذكر؟!
وبالجملة أقول: إنها قضية مهمة تعم بها البلوى وتنتشر في القديم والحديث، بل كانت مصاحبة لأعمال أخرى كشرب الخمر، لا يرد فيها آية واحدة صريحة، على حين نجد أن الله ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وذكر الحيض، وذكر المآكل المحرمة كالميتة والدم، مع أن النفس تعافهما، ولا يكاد يوجد من يأكلهما، وذكر أشياء أخرى أقل عمومًا وانتشارًا، وبين فيها الحكم الواضح، فإذا جئنا إلى الغناء لم نجد فيه آية واحدة قاطعة تقول: الغناء حرام، أو: لا تغنوا. وقد قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 119].
أما ما ورد في السنة فأقول:
أولا: الأحاديث التي وردت في الغناء والموسيقى على ثلاثة أنواع:
الأول: أحاديث صريحة في التحريم ولكنها ضعيفة في السند والرواية وهذه أكثر الأحاديث.
الثاني: أحاديث صحيحة في السند ولكنها ليست صريحة في التحريم؛ مثل حديث: « يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ».
الثالث: أحاديث صحيحة في السند صريحة في جواز الغناء والموسيقى كالأحاديث التي أشرت إلى رءوسها آنفا.
ولا يوجد حديث صحيح صريح يقول: لا تغنوا، أو حرم عليكم الغناء، ومن لديه حديث صحيح بهذا الوصف فليذكره لنا.
ثانيا: الحديث المشار إليه: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» حديث صحيح عند البخاري وغيره من رواية أبي مالك الأشعري.
والسؤال: هل يدل الحديث بلفظه أو معناه على حرمة المعازف؟
وأقول:
لا يدل الحديث بلفظه ولا معناه على حرمة المعازف للآتي:
١- أن الرواية رواية خبر وليس رواية حكم، ورواية الأخبار لا ينبني عليها حكم شرعي، وغاية ما تشير إليه وقوع حادثة معينة، وذلك ككثير من أخبار علامات القيامة الصغرى والكبرى، كالملحمة الكبرى مثلا، لا يؤخذ منها حكم وجوب قتال الروم في كل زمان مثلا، وكذلك خبر فتح القسطنطينية لا يوجب على المسلمين فتحها، بمعنى أن من لم يسع في فتحها فهو آثم، وغاية ما في الخبر الثناء على من فتحها والبشارة به. وعليه: فلا بد من فهم الفرق بين أحاديث الأحكام وأحاديث الأخبار.
ثانيا: إذا نظرنا إلى الأشياء المذكورة في رواية البخاري نجد أنها جمعت ما هو حرام باتفاق كالزنى والخمر، وذكرت ما هو حلال لبعض الأمة حرام على بعضها كالحرير، فلو كان المقصود إيراد الكل في سياق الحرمة لصار الحرير حرامًا على جميع الأمة بلا استثناء، لقوله صلى الله عليه وسلم «مِنْ أُمَّتِي» وأمته فيها الرجال والنساء والصغار والكبار، ومن المعلوم أن الحرير ليس حراما على النساء ولا على الأطفال لعدم التكليف، فهل يقول قائل: إننا نستطيع أن نستعمل هذا الحديث دليلا على تحريم الحرير على النساء كما يريد استعماله دليلا على تحريم المعازف.
ثالثا: إذا سألت الذين استعملوا هذا الحديث للدلالة على حرمة المعازف، من أين أتوا بالتحريم، قالوا: التحريم أتى من أمرين: قوله: «يستحلون»، والثاني دلالة الاقتران؛ حيث قرن بين الخمر والزنى وبين المعازف في جملة وعطفًا بالواو، فدل على أن الكل يشترك في ذات الحكم.
وأنا سأبين ضعف هذين الأمرين:
أولا: قولهم: «يستحلون» دليل على أنه كان حراما:
وهذا التفسير فيه تجاوز المعنى الكلي لكلمة (يستحل) في السنة؛ فكلمة (يستحل) تأتي بمعنى تجاوز الممنوع كما في قوله صلى الله عليه وسلم: « وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»[رواه مسلم] فالفروج كانت ممنوعة حتى أجازها الزواج الذي هو كلمة الله.
وتأتي أيضا بمعنى فعل الشيء الحلال أصلا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ». فقال: «من حلال استحللناه».
فمن استحلت الحرير، لا لكونه محرما، ولكن لأن الشرع أذن فيه، وكذلك من استحل الغناء لا لكونه حرامًا ولكن لأن الشرع أذن فيه.
وعليه: فكلمة «يستحلون» لا تدل بذاتها على أن المفعول محرم، بل نحتاج لدليل خارجي لإثبات حرمته.
ثانيا: الاستدلال بدلالة الاقتران:
اختلف الفقهاء في الأخذ بدلالة الاقتران والاستدلال بها على قولين:
الأول: ذهب البعض للعمل بها، ومن هؤلاء الإمام أبو يوسف من الأحناف، والمزني من الشافعية، والباجي من المالكية، وأبو يعلى من الحنابلة، قالوا: إذا جمع الله بين أفراد وعم بحكم فللأفراد ذات الحكم.
الثاني: ذهب الجمهور من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة إلى إنكار دلالة الاقتران، وقالوا: إن الاقتران في اللفظ لا يوجب القران في الحكم.
وعلى مقتضى قولهم فإن الجمع بين الخمر والمعازف لا يجعل المعازف حرامًا، بل تحتاج لدليل خاص بالتحريم.
وأنا سأعطي أمثلة هنا تدلل على أن دلالة الاقتران لا تصلح دليلا في المنع أو الإباحة:
١- قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]. فهل تصير العمرة فريضة مثل الحج بدلالة الاقتران في الإتمام؟ (الجمهور على أنها سنة).
٢ – قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8]. فهل اقتران الخيل بالبغال والحمير في الركوب يجعل من أكلها محرمًا كما هو مذهب مالك أو مكروهًا كما هو
رأي الإمام الأعظم رضي الله عنه وأكثر الأحناف؟ مع أن مذهب الجمهور أن لحم الخيل جائز، بل ورد الحديث بجوازه كما في البخاري.
٣- روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ». فهل يفهم من الجمع بين هذه الأشياء الخمسة أنها على درجة واحدة، فنقول: إن الختان للرجل مثل قص الشارب، والجمهور من العلماء على أنه واجب كما هو مذهب الشعبي، وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وشدد فيه مالك؛ حتى قال: من لم يختتن، لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته.
والشاهد أن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم جمع بين أشياء في نص واحد وليس لها ذات الحكم، فبعضها واجب وبعضها مندوب، ومجرد الاقتران لا يعطيها حكما واحدًا.
ومثله حديث: «يستحلون الحر …» جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أشياء بعضها محرم قطعا وبعضها محرم على الرجال دون النساء والأطفال، وبعضها ليس محرمًا أصلا.
4- حديث ابن عمر الذي رواه أبو داود والبيهقي، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
وفي الحديث جمع بين ما هو محرم كبيع العينة عند البعض وبين ما هو جائز كأخذ أذناب البقر والزراعة. فهل يقول قائل: إن الاقتران يدل على وقوع الموعود على كل مذكور بمفرده، فيكون من يزرع مستحقًّا للذل؟!
والسؤال هنا: ما الفائدة من هذا الحديث؟
والفقه السليم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذم الجمع وليس الجميع، فقد أخبرنا عن قوم يفعلون أفعالا بعضها حرام وبعضها حلال يجمعون بينها في مجلس واحد.
ونظير ذلك في القرآن: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68]. فهنا أمران: المجلس، والخوض، والنهي ليس عن المجلس مفردًا، ولكن المجلس الذي اجتمع معه الخوض، ولو انفرد المجلس عن الخوض لجاز لقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾.
ومن قبل: الأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بدليل، فما بالنا إذا وردت الأدلة بوقوع الغناء والعزف في حياته صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للجزء الثاني من السؤال الخاص بالآلات التي يمكن تدريسها إذا كانت الفتوى بالجواز، وهل هناك حرمة لآلات معينة؟
أولا: من تتبع كلام العرب في آلات العزف والموسيقى نجد أنهم عرفوا أنواعا متعددة؛ منها:
1- آلات وترية:
ومنها العود، وكان يستعمله اليهود، وزعموا أن داود كان يضرب عليه، وأنه صنعه من خشب السرو. وكان يسمى عند العرب المزهر.
ومنها الرباب، وكانت العرب تستعمله وكذلك اليهود.
2- آلات النفخ:
ومنها الناي: وقد يسمى اليراع، وعرفته العرب بكثرة وكذلك استعمله اليهود.
والمزمار: وقد يقصد به الناي أيضًا، واشتهر بين العرب واليهود.
والبوق: وكانت تستعمله اليهود.
3- آلات الضرب ومنها:
الدف: ويسمى الطبل والغربال، وقد يكون الدف بصنوج، وقد يكون خاليا منها.
ومنها الكبَر: وهو الطبل الذي له وجهان.
ومنها الصنوج، وكانت تصنع من النحاس وتصر الصوت بقرعها سويًّا، وكانت معروفة عند اليهود والعرب.
ثانيا: كل آلة من هذه الآلات تفرعت عنها آلات أخرى مع تطور الزمن، ومن يقول بحل المعازف لا يفرق بين آلة وأخرى؛ إذ الأصل في الكل الإباحة؛ ما كان معروفًا في زمنه الشريف وما جاء بعده، والحكم ليس لعين الآلة وإنما لوجه الاستعمال.
فليس هناك فرق بين المزمار والساكس مثلا؛ لأن كلاهما يقوم على النفخ، وليس فرق بين العود وبين الكمان وكلاهما وتري.
ثالثًا: استعمل النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم كلمة المزمار في حديث أبي موسى المشهور.
والسؤال: هل أراد النبي بقوله: « لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ». المدح أم الذم؟
والإجابة بالقطع إنه جاء في سياق المدح.
ونقول: هل يمكن أن يُشَبِّهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمحرم في سياق المدح؟
لو كان المزمار محرمًا، هل يصح أن يشبه به في سياق المدح؟!
فمثلا هل يمكن أن يقول لأحدهم: أنت كهبل أو اللات؟ ويقصد العظمة والتبجيل؟!
أو يشبه إنسانا بالخنزير لأنه مثلا كثير الولادة؟!
وقد يقول قائل: نحن نشبه الإنسان بالحيوان في سياق المدح، فنقول: فلان كالأسد.
والجواب أننا نشبه الإنسان بالحيوان في صفة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وهذه الصفة حلال في ذاتها، وفي حالة الأسد هي القوة والشجاعة، وفي حالة الجمل الصبر وقوة التحمل، وفي حالة الغزال الرشاقة والجمال، وهكذا.
وقياسا على ذلك فتشبيه حضرة النبي لأبي موسى لا بد أن يكون قد وقع بشيء حلال أصلا.
وهذا التخريج وقع لنا بالتوفيق ولله الحمد والمنة.
بالنسبة لمن يزعم أن الفقهاء الأربعة اجتمعوا على حرمة المعازف، فبغض النظر عن مسألة صحة النقل عن اجتماعهم على الحرمة أقول:
أولا: يجب أن نعرف أن اجتماع الفقهاء الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة لا يعتبر في ذاته إجماعًا؛ إذ قد يخالفهم غيرهم ممن يعتد بخلافه، وقد وقع. وهناك فرق بين الاجتماع على رأي والإجماع عليه.
ثانيا: مخالفة اجتماع المذاهب الأربعة جائزة إذا قام الدليل على خلاف قولهم، وقد وقع، وسأعطي أمثلة على ذلك:
١- ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يشترط لسجود التلاوة ما يشترط لسجود الصلاة من الطهارة واستقبال القبلة، وطهارة الموضع، وخالف البخاري وروى عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة، وذهب ابن تيمية إلى صحة السجود من غير طهارة، وتابعه الشوكاني.
٢- من أكل أو شرب بعد أذان الفجر ظانًّا بقاء الليل:
ذهبت المذاهب الأربعة إلى أن صومه غير صحيح وعليه القضاء، وخالف ذلك المزني وابن تيمية، وقالوا: صومه صحيح.
٣- الرهان بمساهمة المتراهنين:
ذهب الأئمة الأربعة إلى حرمة الرهان إذا بذل المتراهنون العوض، وعدوا ذلك من القمار، واشترطوا لجوازه وجود المحلل (شخص يدخل في الرهان دون أن يساهم في جائزته).
وذهب ابن القيم لجواز الرهان بالمساهمة، وأبطل اشتراط المحلل
٤- عدة المختلعة:
ذهب الأئمة الأربعة إلى أن عدة المختلعة عدة المطلقة، وذهب إسحاق وابن تيمية إلى أن عدتها حيضة واحدة.
٥- طلاق الثلاث بلفظ واحد:
ذهب الأئمة الأربعة لوقوع الطلاق ثلاثًا باللفظ الواحد، وخالفهم البعض وقالوا: يقع طلقة واحدة. ومنهم ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن وضاح.
بل خالف البعض وقالوا: إنه لغو لا يقع حتى واحدة. وهو مذهب الظاهرية وهشام بن الحكم.
٦- بيع المعصور بأصله:
المذاهب الأربعة أنه لا يجوز بيع أصله بعصيره، كالسمسم بالشيرج، والعنب بالعصير؛ لأنه إذا عصر الأصل نقص عن العصير الذي بيع به. وأجازه ابن تيمية.
٧- بيع حلي الذهب المصوغ بغير المصوغ متفاضلا:
اتفق الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله ـفي المشهور عنهمـ على تحريم بيع حلي الذهب بآخر متفاضلا ومؤجلا، وعدّوا هذه المعاملة من قبيل الربا، ونقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك، مثل ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي.
وخالف ابن تيمية وابن القيم وأجازا بيعه متفاضلا، وأن الفضل بمقابل الصنعة.
وسأكتفي بهذه الأمثلة، ولو شئت لذكرت عشرات المسائل.
ثالثا: بمراجعة كلام السادة العلماء أصحاب المذاهب نجد أنها تنوعت في التعبير عن حكم الغناء والمعازف، ولم تجمع على التحريم، وهذه بعض النقول مما ورد في كتب المذاهب وأفاضل العلماء:
– ورد في بدائع الصنائع لسيدنا الكاساني: (يجوز بيع آلات الملاهي من البربط والطبل والمزمار والدف ونحو ذلك عند أبي حنيفة، لكنه يكره، وعند أبي يوسف ومحمد لا ينعقد بيع هذه الأشياء؛ لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة للفسق والفساد، فلا تكون أموالًا، فلا يجوز بيعها، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الانتفاع بها شرعًا من جهة أخرى بأن تجعل ظروفًا لأشياء، ونحو ذلك من المصالح، فلا تخرج عن كونها أموالًا، وقولهما إنها آلات التلهي والفسق بها، قلنا: نعم هذا لا يوجب سقوط ماليتها كالمغنيات والقيان).
ويقول: (ولو كسرها إنسان ضمن عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يضمن)
– ذكر الذهبي في ترجمة ابن الماجشون (كان يعلم الغناء ويتخذ القيان). (وكان أول من علم الغناء من أهل المروءة).
– يوسف بن يعقوب الماجشون وكان من رواة الزهري وأدركه يحيى بن معين، وقال: (كنا نأتيه فيحدثنا في بيت وجوار له في بيت آخر يضربن بالمعزفة). وعلق الذهبي على رواية ابن معين هذه: (أهل المدينة يترخصون في الغناء، هم معروفون بالتسمح..).
– لما انتقل زرياب للأندلس في عهد عبد الرحمن بن الحكم أنشأ دارًا لتعليم الغناء والموسيقى سماها (دار المدنيات)، وهي معهد موسيقي في قرطبة، يعتبر الأول في الأندلس، تأسس عام 825م، واستمرت الدار قرونا بحضور فقهاء الأندلس من المالكية وغيرهم وفيهم كبار الأسماء المعروفة.
– ومن علماء المدينة المشاهير الإمام عبد العزيز بن أبي سلمة ، قال عنه الخليلي: (يرى التسميع ويرخص في العود).
– عبد الملك بن عبد العزيز مفتي زمانه ومن أصحاب مالك، قال ابن عبد البر: (وكان مولعا بسماع الغناء ارتحالا وغير ارتحال، قال أحمد بن حنبل: قدم علينا ومعه من يغنيه).
– إبراهيم بن سعد من الحفاظ الكبار وحفيد عبد الرحمن بن عوف قال الذهبي: (كان إبراهيم يجيد صناعة الغناء).
ونقل الخطيب قصته مع بعض أهل الحديث وفيها أنه حلف ألا يروي حديثًا إلا إذا غنى قبله، والقصة مشهورة في كتب التراجم.
فنرجو التدبر وألا نضيق واسعًا، وألا نسارع في المنع دون استقراء الآراء والموازنة.
المفتي: د خالد نصر