(ف28) ما الفتوى المعتبرة بخصوص التأمين على الحياة؟

لقد سأل الأخ على أمر هام وأنا سأجيب عليه باختصار؛ لأن الموضوع يحتاج إلى بحث مطول.
أولا: تعريف التأمين عرَّف الأستاذ مصطفى الزرقا نظام التأمين في نظر علماء القانون بأنه نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة، غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بواسطة هيئات منظمة، تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس. إذن هو عقد من عقود المعاوضة المالية يلتزم كل طرف بدفع مسئولية مادية تسمى عند المؤمِّن قسطا وعند الهيئة تعويضا. والعقد بصوره أمر حادث لم يقع في الفقه القديم كلام مباشر عنه.
وأول من تكلم عنه فيما نعلم هو خاتمة الأحناف المحققين العلامة ابن عابدين، وسماه عقد السوكرتاه، وبدأ بفكرة التأمين البحري لبعض السفن والبضائع في الموانئ، وقد أفتى الإمام ابن عابدين بمنعه لعدم وضوحه وانجلاء عقده في هذه الفترة.
ولقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذا الأمر؛ فقالت طائفة: إنه من العقود المحرمة وجاءت أهم أدلتهم: – الغرر – الجهالة – المقامرة فالغرر والجهالة لأنه مستور العاقبة، فإن كلًّا من المتعاقدينِ لا يستطيع أن يعرف وقتَ العقد مقدارَ ما يعطي أو يأخذ؛ لأنه قد يدفع قسطًا من الأقساط ثم يقع الحادث فيستحق ما التزم المؤمِّن به، وقد لا يقع الحادث مطلقًا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا. والمقامرة لأن المُؤمِّن قد يدفع القليل وحصل على الكثير دون عمل واستحقاق بصورة شرعية.
هذه هي أهم دفوع المانعين، أما أدلتنا في الجواز فهي الآتي:
1- قياس التأمين على عقد الموالاة، ونحن الأحناف نعتبره من أسباب الميراث، وعقد الموالاة هذا هو أن يقول شخص مجهول النسب: أنت وليي تعقل عني إذا جنيت، وترثني إذا أنا مت. ويعقل عنه بأن يدفع مسئولية الجناية المادية، وهو كما نرى يشبه عقد التأمين لأن كل طرف يلتزم بالتزام مادي تجاه الآخر.
٢- قياس التأمين على نظام العاقلة ومفاده أن القاتل الخطأ تدفع عنه العاقلة -وهم أهله- تدفع عنه مطلوب الجناية، وهو نوع من التكافل، ويشبه التأمين في شيئين: الأول: الضمان من المجموع. الثاني: يدفع فيه من لم يخطئ. ونظام العاقلة وردت به الأدلة.
٣-قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق، وذلك أن يقول شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمِن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن. فسلكه فأُخِذ مالُه فإنه يضمن القائل، نص عليه الحنفية في باب الكفالة. فها نحن نرى جوازه عند السادة الأحناف مع أن الخطر مظنون.
٤- الاستدلال بقاعدة الالتزامات والعقد الملزم عند المالكية، وخلاصتها لو أن شخصًا وعد غيره عِدةً بقرض أو بتحمل خسارة أو بإعارة أو هبة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه بالأصل، فإنه يصبح بالوعد ملزمًا في رأي عند المالكية. وها نحن نرى شركة التأمين تلتزم بدفع مبلغ معين عند الحادث أو الوفاة وتلتزم به فإذا جاز من طرف واحد جاز إذا كان هناك التزاما من طرفين.
٥- قياس عقد التأمين على عقد الحراسة الذي أجازه الفقهاء فمحل العقد في التأمين في الواقع هو الأمان، فالأجير الحارس وإن كان مستأجرًا على عمل يؤديه وهو القيام بالحراسة، فإن عمله المستأجر عليه ليس له أي أثر أو نتيجة سوى تحقيق الأمان للمستأجر على الشيء المحروس واطمئنانه إلى استمرار سلامته من عدوان شخص أو حيوان… وكذا الحال في عقد التأمين، يبذل فيه المستأمن جزءًا من ماله في سبيل حصوله على الأمان من نتائج يخشاها، وانظر معي إلى الحالات الآتية التي تشبه التأمين: – الحارس ربما يعمل لدى الموظف سنين ولا تحدث حادثة واحدة ومع ذلك يلتزم كل طرف بما عليه ويدفع له الموظف مرتبه.
– والحارس قد يعمل شهرا واحدا ثم تقع حادثة ويموت فلا ينتفع بمرتباته إلا شهرا، فهو نفس الحال في التأمين، فلماذا جاز هذا ولَم يجز ذاك؟ أما مسألة الغرر والجهالة فهي مسألة نسبية وقد نص الفقهاء على أنه يعفى عن الغرر اليسير ومع ذلك أنا أزعم أن كل البيوع فيها مساحة غرر: فمن يشتري منزلا هل يبحث في الأساسات والأركان أم يشتري على المشاهدة الظاهرة المظنونة؟ ومن يشتري سيارة مستعملة من المزاد هل يعلم كل ما فيها أم يفترض فيها صدق الواصف؟ بل من يكتب الدواء للمريض هل يضمن به وقوع العلاج أم إن الأمر محتمل؟ فهل نبطل كل العقود في التصرفات السابقة؟ وعليه فالغرر الممنوع هو مثل بيع الطير في السماء أو السمك في الماء، أما اليسير فهو منتشر وعام يعفى عنه. أما المقامرة فهي بعيدة؛ لأن كل طرف يعلم مسبقا ما يدفع وما يأخذ كما أن الخدمة المشتراة بالإضافة إلى التعويض هي الأمان وهي سلعة تباع وتشترى الآن. وانظر إلى كلام ابن تيمية في كتابه “القواعد النورانية”: (وأما الغرر، فأشد الناس فيه قوة أبو حنيفة والشافعي، لكن أصول الشافعي المحرِّمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك، أما مالك، فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره، وأحمد قريب منه في ذلك).
فانظر إلى تساهل ابن تيمية وثنائه على مذهبي مالك وأحمد في التساهل مع بعض الغرر لتسهيل أحوال الناس.
ولسيدنا الفاضل مصطفى الزرقا كتاب “نظام التأمين حقيقته، والرأي الشرعي فيه” وهو كتاب جليل معظم أدلتي مأخوذة منه. هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر