(ف314) تعرضت فتاة قاصر للاعتداء الجنسي غير الكامل، ولم يصل الأمر إلى فض عذريتها، إنما وصل للاعتداء بتعريتها تمامًا والاعتداء على جسدها باللمس والأمور الأخرى. وكان هذا الاعتداء من قبل ٣ أشخاص قاموا باستدراجها إلى منزل أحدهم بحجة مساعدة أمه بأمر ما لمعرفتها السابقة بهذه الأم. وأبقت تلك الفتاة ما حدث لها سرًّا مؤثرًا بحالة نفسية أفضت لرفض عروض الزواج  لخوفها النفسي من الرجال، إلا أنها تعافت بعد العلاج النفسي، ولكنها قررت الانتقام بطريقة مختلفة؛ إذ إنها جمعت الأدلة الكافية لإدانتهم بالقانون من استدراجهم جميعًا بطريقة ذكية بالاعتراف بتسجيل صوتي بمكالمات بما حصل مع وجود شهود. وفي القانون الحكم سيكون بأقل تقدير السجن ٧ سنوات أو أكثر قد يصل إلى ١٥ سنة، وهي لا تريد سجنهم بل تريد تعويضًا عن تلك الجريمة، وطلبت منهم مبلغ ١٠ آلاف دينار أو التقدم بالشكوى، ووافق الجناة على ذلك. فهل هذا المال الذي ستحصل عليه حلال شرعًا أم حرام؟

أولا: لا بد من توصيف المسألة توصيفًا جامعًا، حتى يتأتى الحكم عليها:
فما ورد في السؤال أن الفتاة وهي قاصر في حكم القانون تعرضت لتحرش جنسي جسدي لم يصل لجريمة الاغتصاب، ولم يصبها جراء ذلك ضرر جسدي في أحد أعضائها، ولكن ذلك الاعتداء تسبب لها في ضرر نفسي تطلب علاجًا ومتابعة مع طبيب مختص.
فالضرر هنا هو في مجمله ضرر نفسي، وإن كان باعثه جسديًّا.
كما أنه متعلق بما يخص عرض المرأة المصون بمقاصد الشريعة.
ثانيا: أن المرأة لم ترفع أمرها إلى القضاء لأخذ حقها المدني، والاقتصاص من هؤلاء المجرمين، وكان في استطاعتها، واستعاضت عن ذلك بتهديدهم والحصول على جزء مالي تعويضًا عن ما وقع لها.
والحق أن الفقهاء قد اختلفوا في حكم أخذ العوض عن جرائم العرض:
١- فجمهور الفقهاء على منع أخذ العوض المادي في جرائم العرض؛ قال صاحب المغني: (وإن صالحه عن حد القذف لم يصح الصلح؛ لأنه إن كان لله تعالى لم يكن له أن يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له، فأشبه حد الزنى والسرقة، وإن كان حقًّا له لم يجز الاعتياض عنه؛ لكونه حقًّا ليس بمالي، ولهذا لا يسقط إلى بدل، بخلاف القصاص؛ ولأنه شرع لتنزيه العرض فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال).
وقال صاحب مواهب الجليل: (ومن صالح من قذفٍ على شقص أو مال لم يجز، ورُدَّ، ولا شفعة فيه، بلغ الإمام أو لا، لأنه من باب الأخذ على العرض مالًا).
والذي دفع جمهور الفقهاء إلى تبني هذا التوجيه والحكم عدة أمور، منها التفريق بين الحسي والمعنوي، وكذلك انضباط الأمور الحسية بمعرفة مقابلها كالعين بالعين أو ما يقابلها، والسن بالسن أو ما يقابله، أما المعنوي فمعرفته غير منضبطة وتختلف باختلاف الأحوال، وكذلك لأن الأعراض ليست محلًّا للمعاوضة وإلا صار الباب مفتوحًا للتعويض في جريمة الزنى والاغتصاب، وصار التعويض بابًا خلفيًّا لإسقاط العقوبة.
٢- ذهب الإمام أبو يوسف يعقوب أنه يجوز أخذ ما يسمى (أرش الألم)، فقد جاء في مجمع الضمانات لغياث الدين الحنفي ما نصه: (ولو شج رجلا فالتحمت -أي جراحه- ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه أرش الألم، حكومة عدل).
أما الإمام ابن عرفة المالكي فقد ذهب إلى استحسان أخذ أجرة الطبيب في الجرح الذي ليس فيه أرش مقدر.
وقد ذهب بعض الفقهاء المحدثين إلى جواز أخذ التعويض في الأضرار المعنوية واستدلوا لذلك بأدلة منها:
– ما ورد في كلام أبي يوسف وابن عرفة السابق، ونقل الشيخ شلتوت في المسئولية المدنية والجنائية أن أصل التعويض المالي في مسائل الشرف والعرض مأخوذ من مذهب الشافعية.
– أن الجريمة لا يجب أن تمر بغير عقوبة، سواء كانت حسية، أو معنوية لقوله تعالى: ﴿‌وَجَزَاءُ ‌سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40] والجرائم تقع فيها العقوبة بالحد أو التعزير.
أما الحدود فمعروفة، وأما التعزير فمحل اجتهاد الفقهاء والأئمة والقضاة، وقد أجاز جمهور الفقهاء التعزير بالعقوبة المالية ومنهم المالكية والحنابلة وقول عند الشافعية.
– أن التعويض عن الأضرار المعنوية من الأمور الحادثة التي لم يعطها الفقهاء قديمًا حقها في الدرس.
جاء في الموسوعة الفقهية: (لم نجد أحدًا من الفقهاء عبَّر بـهذا -الضرر المعنوي- وإنما هو تعبير حادث، ولم نجد في الكتب الفقهية أن أحدًا من الفقهاء تكلم عن التعويض المالي في شيء من الأضرار المعنوية)، فهي من المصالح المرسلة
وعمومات البلوى، فيجوز للإمام فرض ما يراه ضابطًا للسلام الاجتماعي ومنه العقوبة المادية).
هذا هو ما جاء في فقه هذه المسألة.
والذي أراه: أنه يجوز لهذه السيدة أخذ مال التعويض لتغطية نفقات علاجها وأجرة الطبيب، وما زاد على ذلك فحق المجتمع تعزيرًا للفعلة، فلها أن تتصدق به على فقراء المسلمين، أو تضعه في جمعيات تأهيل المغتصبات، أو جمعيات محاربة التحرش، وبذا تكون قد استوفت حقها في الجزء المحسوس، وأوقعت التعزير على الجناة الذي هو حق المجتمع، دون أن تجعل عرضها محلا للمعاوضة. والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر