(ف341) كان أخي يعمل في مكان وعنده عهدة، وكان له مبلغ مالي متأخر عند صاحب العمل، وقرر أخي أن يترك هذا العمل، ولكن صاحب العمل رفض أن يعطيه بقية مستحقاته المادية. هل يجوز له أن يأخذ العهدة؟ مع العلم أن العهدة قيمتها أقل من المبلغ.

أولا: الأصل في المعاملات المادية استيفاء الحقوق، والوفاء بالعهود، وإنفاذ العقود، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌أَوْفُوا ‌بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. وقال تعالى ﴿‌لَا ‌تَأْكُلُوا ‌أَمْوَالَكُمْ ‌بَيْنَكُمْ ‌بِالْبَاطِلِ ﴾ [النساء: 29].
وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره».
وفي الحديث الآخر -وإن كان في سنده مقال- : «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه».
ثانيًا: اختلف الفقهاء في مسألة استيفاء الحق ممن عليه الحق في حالة جحده أو مماطلته، فيما يطلق عليه الفقهاء مسألة (الظفر بالحق) أو ( أخذ الحق بالحيلة).
والأصل فيه حديث هند بنت عتبة الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» [رواه مسلم].
وكذلك حديث عُقْبة بن عامر رضي الله عنه قال: قُلْنا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّك تبعثنا فننزل بقومٍ لا يُقْروننا، فما ترى فيه؟ فقال لنا: «إن نزلتم بقومٍ، فأمَروا لكم بما ينبغي للضَّيف، فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخُذُوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي لَهم». [رواه البخاري ومسلم].
فعمم بعض الفقهاء دلالة مفهوم هذه النصوص في كل من غُلِبَ على حقه، فيكون نصًّا عامًّا في دلالته، وخصصها بعضهم بمن كان في حال هند بنت عتبة أو في حال سفر منقطع، فتكون واقعة حال ليس لها عموم في غير هذا الحال.
وكذلك استدلوا بظاهر قوله تعالى: ﴿‌وَإِنْ ‌عَاقَبْتُمْ ‌فَعَاقِبُوا ‌بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: 126]. وقوله: ﴿‌وَجَزَاءُ ‌سَيِّئَةٍ ‌سَيِّئَةٌ ‌مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40].
وقد أجاز أخذ الحق بالحيلة السادة الأحناف، وأجازه الشافعية بشروط، وهو قول عند المالكية، وبه قال بعض الفقهاء مثل ابن سيرين وإبراهيم وابن حزم وابن المنذر وغيرهم، واستدلوا له بقصة هند السابقة.
بل استدل له القرطبي بقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال: وأخذ الحق من الظالم نصر له.
على حين ذهب الحنابلة وهو قول عند المالكية ونسب إلى سفيان إلى أنه لا يجوز أخذ الحق إلا بالاستيفاء أو حكم الحاكم، واستدلوا لذلك بما رواه الترمذي وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم: «أدّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك».
وهذا الحديث ضعفه غير واحد من العلماء منهم الشافعي وأحمد والبيهقي وابن حزم وغيرهم.
ثالثًا: الذي نختاره أنه يجوز استيفاء الحقوق من الظالم والجاحد لها بالحيلة ولكن بشروط منها:
١- ألا يأخذ أكثر من الحق بقيمته يوم الاستيفاء.
٢- ألا يقع ضرر على مال المستوفى منه بأكثر من قيمة مال الحق، وذلك كمن يأخذ قطعة من ماكينة لا تصلح إلا بها.
٣- ألا يترتب على استيفاء الحق ضرر أكبر، وذلك بوقوع فضيحة أو سوء سمعة أو إسقاط عدالة.
٤- أن يستوفي حقه من الجاحد نفسه لا من شركائه إن كان له شركاء أو من أهله وورثته، لأنه لا ذنب لهم.
٥- أن يأخذ من جنس المجحود، فإن كان مالًا فمال، وإن كان عينًا فعين، فإن لم يكن من جنسه قدره بقيمة ثمنه يوم الاستيفاء لا بأصل ثمنه.
وعلى هذا وبما ورد في السؤال:
لا بد من حسم مسألة الاستحقاق أولا، وذلك بالرجوع إلى صاحب العمل وإلى أصل التعاقد، فإن ثبت الحق جاز أخذ الحق بالشروط السابقة، وإن أقر صاحب العمل وطلب وقتًا، تحول الحق إلى دين وصار حكمه حكم الدين، وإن لم يقر بأحقية المطالب أصلا، تقرر الرجوع إلى القضاء الشرعي أو المدني للفصل في الحقوق والواجبات.
المفتي: د خالد نصر