(ف358) يوجد في كتب السنة أحاديث في الاستشفاء بالتمر؛ منها «مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلاَ سِحْرٌ». ما رأيك شيخنا كيف نتعامل مع هذا؟

هذا النوع من الأحاديث والروايات إن صحت، فإنها مما يعرف بالوحي والخبر، وليس فقط بالحس والتجربة.
وما كان مداره الخبر (الخبر هنا بمقابل الإنشاء، والإنشاء كأن يقول: عليكم أن تأكلوا، فيكون أمرا، أو: إن أكلتم، فيكون شرطًا، أو يرتب عليه ثواب أو عقاب فيكون أمرًا أو نهيًا باستصحاب العاقبة) نظرنا فيه جيدًا من جهة السند، بحيث يصح سنده، ولا يخالف العلم القطعي، ولا يخالف الأقوى منه.
فإذا كان هذا حاله فعلناه تعبدًا، حتى لو لم نفهم الحكمة.
وحديث التمرات مما ورد في الصحيحين، فقد روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرُّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ» وفي هذه الرواية لم يحدد مكان نمو هذا التمر، على حين جاءت الرواية الثانية أكثر تحديدا فقد أخرج مسلم بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ حَتَّى يُمْسِىَ» واللابتان، هما الحرة الشرقية والحرة الغربية، وهي أرض ذات أحجار سود كأنها أحرقت بالنار.
وفي رواية الإسماعيلي: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً مِنْ تَمْرِ الْعَالِيَةِ» والعالية هي القرى التي في الجهة العالية من المدينة وهي جهة نجد.
وقد ورد كذلك في سنن أبي داود من حديث مجاهد عن سعد، قال: مَرِضْتُ مَرَضًا فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي فَقَالَ: «إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ ائْتِ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ فَإِنَّهُ رَجْلٌ يَتَطَبَّبُ فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنَّ بِنَوَاهُنَّ ثُمَّ لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ».
ومعنى : لِيلُدَّك، أي يسقيك.
والذي يظهر في فقه هذا الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم فائدة تمر المدينة إما بطريق الوحي، فكان منه خبرًا لأمته، ويكون مخصوصًا بما ورد لا يتعداه إلى غير التمر، ويكون عامًّا في كل الأمة.
أو يكون قد علم ذلك بطريق الخبرة والممارسة، وذلك أن أفضل الطعام هو طعام الأرض التي يعيش فيها الإنسان لأنه يوافق هواءها وماءها وما يعرض لها، ويشبه ذلك علاج الحساسية فأفضله ما استخرج من ذات المكان الذي يعيش فيه المريض، وكذلك العسل، فأكثره نفعًا ما جاء من نفس مكان إقامة المستفيد منه.
فيكون أن نبه النبي صلى الله عليه وسلم لمصدر محلي طبيعي في علاج الأمراض المذكورة، ويكون بهذا خاصًّا بأهل المدينة ومن جاورهم في ذات البيئة.
ويشهد لهذا التوجيه ما ورد في رواية أبي داود، حيث أحاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطبيب المتخصص، ولو كان التمر يشفي بطبيعته، لأخبره أن يتناوله بنفسه.
ولكنه طلب منه أن يطلب من الطبيب أن يصنع له مخلوطًا من اللب والنوى ويسقيه إياه على هيئة الدواء .
قال القاضي عياض: (تخصيصه ذلك بعجوة العالية وبما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خصوصًا لها، كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد دون ذلك الجنس في غيره لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء).
ويبقى أن هذا التوجيه ظاهر في السم، الذي يحتاج إلى جسد قوي، ومناعة قوية لمحاربته، وتمر المدينة المحلى يعطي هذه الميزة، فكأنه يعمل كترياق.
أما مسألة السحر فهي تبدو قضية معنوية أكثر منها حسية.
والمتوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك بالخبرة أو الخبر.
أما الخبر فبركة دعائه للمدينة، فعلم أن الله قد استجاب لدعائه فيها، فنبه على السحر لأنه مع السم أكثر مما يخاف منه الناس في العرف الجاهلي.
أو أنه علم ذلك بالخبرة، وذلك أن حقيقة السحر هي تأثير على العين، لا سيما العيون العليلة التي ترد عليها الخيالات، فيكون تمر المدينة بشحمه وسكره مفيدًا في تقوية قوة البصر لدرجة تقيه من عوارض المغايرة والتخييل التي يأتي بها السحر.
وخلاصة القول: أن هذا وما يشابهه لا يخلو من أحد أمرين وفي الغالب أنه يقوم بهما معًا: بركته صلى الله عليه وسلم وبركة دعائه، وقد رأينا ذلك عمليًّا في دعوة سيدنا إبراهيم لأهل مكة، وكيف أن الجميع يعمل جاهدًا ليحمل لهم رزقهم وهم قعود منذ إبراهيم عليه السلام وحتى الآن.
وكذلك الخبرة الخاصة التي أرشد بها النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام ومنها استعمال العسل، والحجامة، والسواك، وكذلك عدم الوضوء بالماء المشمس وغيرها مما يقع بالدربة والمعرفة.
المفتي: د خالد نصر