كي يقصر المصلي الصلاة في الرباعية فلا بد من توافر شروط الجواز، وهي في مجملها متفق عليها إلا في بعض تفاصيلها، وهذا بيان الشروط:
الأول: نية السفر:
والمقصود به هنا أنه ينوي بمفارقته داره وموطن سكناه السفر العرفي، لا أن يخرج هائما على وجهه في البلاد دون نية الانتقال من حيز إلى حيز.
الثاني: مدة السفر:
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المدة التي يتحول بها السفر إلى حضور، وهذا بيان آرائهم:
١- مذهب الجمهور من المالكية والشافعية وقول عند الحنابلة، وفيه أن من نوى الإقامة في محلة غير بلده مدة أربعة أيام فأكثر فليس له القصر.
واختلفوا في يوم الدخول والخروج، فعد الإمام أحمد من الأربعة الأيام اليوم الذي يدخل فيه واليوم الذي يخرج منه، وذكر أنه إن أقام أكثر من عشرين صلاة أتم، ولم يعد مالك والشافعي يومي الدخول والخروج من المدة.
واستدل هؤلاء بأنه عمل أهل المدينة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمهاجر المعتمر أن يقيم في مكة ثلاثا بعد انقضاء نسكه، فدل على أن هذه مدة السفر والزيادة عليها تعتبر إقامة في دار الكفر لا تجوز في ذلك الوقت.
وكذلك استدلوا للتفريق بين حد الإقامة والسفر بفعل عمر مع يهود الحجاز حين أجلاهم منها وأذن لهم في التجارة، على ألا يقيموا أكثر من ثلاث، فدل على أن ما زاد على الثلاث يعتبر إقامة.
٢- الثاني مذهب السادة الأحناف وفيه أن المسافر إذا نوى الإقامة في البلد التي سافر إليها خمسة عشر يومًا أو أكثر، فيصبح له حكم المقيم فلا يشرع له القصر عند ذلك، أما إذا لم ينو الإقامة فيجوز له أن يقصر مهما طالت مدة سفره، وعلى ذلك فمدة القصر هنا أن يكون السفر لأقل من خمسة عشرة يوما.
واستدل الأحناف بما روي عن عمر وابن عباس حيث قالا: “إذا قدمت بلدة، وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما، أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن”.
وكذلك قاسوها على مدة طهر المرأة، لأن السفر يجامعه اللبث، فقدرناها بمدة الطهر; لأنهما مدتان موجبتان.
٣- أن مدة القصر هي تسعة عشر يومًا، فإن زاد أتم الصلاة:
وهذا قول عند الشافعية وإسحاق بن راهويه، ووصفه الترمذي بأنه أقوى الآراء، واستدلوا له بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس قال: “أَقَامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وإنْ زِدْنَا أتْمَمْنَا”.
٤- مذهب ابن تيمية ومعه بعض الفقهاء أنه لا يتوقت السفر بالمدة، وإنما بالصفة، فما دام المرء مفارقا داره ومحلته وهو في عرف القوم مسافر، فهو مسافر وله أحكام السفر حتى لو أقام في بلد آخر شهرا أو أكثر.
واستدل بعموم لفظ السفر في الأعذار ومنه:
– ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [البقرة: 184].
– ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [النساء: 43].
ولا يخفى ضعف الاستدلال هنا، لأنه لو كان للسفر عموم فلا بد أن يكون للمرض أيضا عموم، فيفطر الصائم لكل ما يسمى مرضا ولو بعض الصداع أو قليل الألم، وهذا لا يقول به أحد، بل لا بد أن يكون المرض معتبرًا للفطر فكذلك السفر.
وقالوا: إن الله لم يفرق بين سفر وسفر، وإن أدلة تحديد المدة كلها محتملة وليس فيها نص غير الاستنباط.
هذا ما يخص مدة السفر.
وبقي أن نشير إلى أن نية الإقامة بالمدة على كل مذهب تمنع القصر من بدء السفر، فلا تجيزه في أول مدته سواء كانت أربعة أيام أو خمسة عشر أو تسعة عشر.
فإما أن تكون هناك رخصة في السفر أو لا تكون وحدها هو المدة على كل مذهب.
وعلى ذلك:
– فمن خرج في سفر وهو ينوي الإقامة خمسة عشر يوما فأكثر وهو يأخذ بمذهب الأحناف مثلا فليس له قصر الصلاة لا في اليوم الأول ولا في غيره.
– ومن خرج في سفر فاق مدة القصر على مذهبه لا يقصر في نهاية المدة إذا بقي منها ما يقع به القصر، لأنه في حكم المقيم حتى آخر لحظة.
– ومن خرج في سفر فاق مدة القصر على مذهبه ثم تغير جدول السفر بأن قصرت المدة عن مدة القصر؛ فإن تغيرت قبل إنشاء السفر فله القصر، وإن تغيرت بعد إنشاء السفر فليس له القصر لأنه بالنية اعتبر مقيما.
– ومن أنشأ سفرا لأقل من مدة القصر على مذهبه ثم تغير جدوله؛ بأن طرأ التغيير لمدة أقل من مدة القصر استمر في قصر الصلاة، وإن تغير في مدة أطول من مدة القصر على مذهبه، صار مقيما بالنية الجديدة وليس له القصر.
– ومن أنشأ سفرا على تقليد مذهب معين؛ ثم أراد أن يقلد مذهبا آخر فله ذلك ويلتزم بلازم المذهب الآخر في بقية أحكام الصلاة.
وذلك كمن أراد أن يقلد الأحناف في القصر بعد أن قلد الجمهور فيه، فهنا ليس له الجمع مثلا لأن الأحناف ليس عندهم جمع للسفر، إلا الجمع الصوري.
الثالث: المسافة المعتبرة في السفر لقصر الصلاة:
اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تعتبر سفرًا تتغير معه الأحكام كالقصر والجمع وإفطار الصائم وسقوط فريضة الجمعة، وهذا تفصيل مذاهبهم:
١- مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وهو اختيار أبي يوسف من الأحناف، ومفاده أن مسافة القصر هي أربعة برد وتساوي تقريبا ثمانية وثمانين كيلو مترا بالمقياس الحالي (حوالي أربعة وخمسين ميلا)، وقيل تساوي أربعة وثمانين كيلو مترا أي حوالي اثنين وخمسين ميلا.
واستدلوا بالآتي:
– عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: “يا أهلَ مَكَّةَ، لا تَقْصُروا في أقلَّ مِن أربعةِ بُرُد، وذلِك مِن مَكَّةَ إلى الطَّائفِ وعُسْفَانَ” [الشوكاني في نيل الأوطار].
– عن عَطاءٍ قال: “سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ: أأَقْصُرُ الصَّلاةَ إلى عَرفَةَ؟ فقال: لا، ولكن إلى عُسْفانَ وإلى جُدَّة، وإلى الطَّائِفِ” قال مالكٌ: “بَينَ مَكَّةَ والطَّائِفِ وجُدَّة وعُسْفَانَ أَربعةُ بُرُدٍ” [الموطأ].
– عن عَطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ: “أنَّ ابنَ عُمرَ وابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما كانَا يُصلِّيانِ رَكعتينِ، ويُفطِرانِ في أَربعةِ بُرُدٍ فما فَوقَ ذلِك” [البخاري تعليقا].
– عن سالِمٍ ونافعٍ، عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: “أنَّه كان يَقصُرُ في مسيره اليومَ التامَّ. قال مالك: وذلك أَربعةُ بُرُد” [الموطأ والمصنف].
٢- مذهب الأحناف:
أن مسافة القصر هي المسافة التي يقطعها المسافر الذي يسير سيرًا متوسطًا في ثلاثة أيام.
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ» [ابن ماجه والدارقطني]. وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك, ولأن الثلاثة متفق عليها, وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق. فيعمل بالمتفق عليه في العبادة، وقال الإمام الشافعي: هو الأحوط.
ومن المعلوم أن المسافة هنا ستزيد بمقدار الثلث عن مذهب الجمهور الذين قدروا السفر بيومين معتدلين.
٣- مذهب الظاهرية ووجه عند الحنابلة وهو اختيار ابن تيمية وتابعه ابن القيم والشوكاني، ويقول بأنه لا مسافة محددة لقصر الصلاة، فكل من خرج في سفر قصر أو طال فله أن يقصر الصلاة.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101] حيث أشار إلى السفر بالمطلق، والضرب في الأرض يصدق في القريب وفي البعيد.
واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما قال: “صَحِبتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان لا يَزيدُ في السَّفرِ على رَكعتينِ، وأبا بَكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ كذلِك رَضِيَ اللهُ عنهم”.
فأطلق لفظ السفر.
وأثر ابن عمر الذي قال: “لَوْ خَرَجْتُ مِيلًا لَقَصَرْتُ الصَّلَاةَ”.
ولكن يراعى هنا:
– أن المسافة تتعين من خارج حدود البلد لا من الدار، وحدود البلد إما أن تكون نهايتها بانتهاء ضواحيها، أو مخرجها المتعارف عليه كالمطار أو الميناء أو محطة القطار.
– لا يشترط في المسافة أن تكون خطًّا مستقيمًا؛ فمن كان عليه أن يناور في سفره حول الجبال والغابات ما يزيد المسافة فهي معتبرة.
– لا تأثير لوسيلة السفر، فيستوي في الرخصة (العزيمة عند الأحناف) من سافر على قدميه أو على ناقة أو في سفينة أو طائرة أو في سيارة، فالعبرة في الرخص بالعلة وليس الحكمة.
– القصر لا يكون إلا بعد إنشاء السفر وليس قبل الخروج ولو نواه، ولكن لا يشترط أن يبدأ القصر بعد وصول الغاية، فله أن يقصر أثناء الطريق وإن لم تكن قد وقعت المسافة في حدها الأقل، وذلك لاعتبار النية والحالية.
– من أخذ برأي الظاهرية لا يقصر إلا خارج المصر أيضًا بالوصف السابق.
– من نوى سفرًا لمسافة القصر عند من يحدد مسافة للقصر، ثم قرر العودة وقطع الرحلة، فقد انقطع سفره وعليه التمام إن لم يبلغ الحد الأدنى الذي تقصر معه الصلاة.
– من نوى سفرًا قصيرًا دون مسافة القصر ثم طال سفره لمسافة القصر؛ له أن يقصر الصلاة وإن لم ينو هذه المسافة؛ لأن العلة هي السفر مع حصول المسافة.
– من فاتته صلاة في السفر حتى مضى وقتها قضاها في الحضر قصرًا، ومن فاتته صلاة في الحضر حتى فات وقتها قضاها في السفر كاملة.
ومن وجبت عليه صلاة في السفر وله القصر فأتى حاضرته ووقت الصلاة ما زال وقت أداء، فله أن يصليها قصرا على رأي السادة الأحناف، وعليه الإتمام على رأي الجمهور.
الرابع: أن يكون السفر مباحًا:
واختلف العلماء في ذلك أيضًا:
١- ذهب الجمهور لاشتراط الإباحة في السفر لجواز الرخصة (وهنا يشمل سفر الطاعة كالحج وسفر الزيارة للأهل وهو مستحب، وسفر الرحلة وهو مباح في أصله).
وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
واستدلوا بقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ﴾ [المائدة: 3].
فجعل العذر بشرطي الاضطرار وعدم قصد المعصية، فمن قصد المعصية لم يفد من رحمة الشريعة ورخصتها.
وفي الترخيص في الواجبات في سفر المعصية إعانة عليه وتخفيف على العاصي، وهذا يخالف مقاصد الشريعة.
٢- وذهب الأحناف ورأي عند المالكية والظاهرية وهو اختيار ابن تيمية والشوكاني إلى أنه لا يشترط في السفر أن يكون مباحًا لقصر الصلاة.
واستدلوا بعموم قوله تعالى ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101]. والضرب هنا عام لم يخصص بطاعة أو غيرها.
وفي حديث مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “فرَضَ اللهُ الصَّلاةَ على لِسانِ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَضَر أربعًا، وفي السَّفَرِ ركعتينِ، وفي الخوفِ ركعةً”. وهذا عام في كل سفر.
وكذلك نحن لا نفرق في صلاة الجمعة التي هي بديل الظهر وفيها ركعتان بدل أربعة بين طائع وعاص، ولا يقال للعاصي: عليك صلاة أربع ركعات ظهرًا.
وكذلك لما جاز للعاصي أن يأخذ برخصة التيمم في السفر جاز له أن يأخذ بعلة السفر في الترخص في نظائر ذلك.
وعلى ذلك:
– من خرج للحج أو لزيارة أهله أو لزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم أو لزيارة الجامع الأزهر أو غيره فله القصر على المذاهب الأربعة.
– ومن خرج للعب القمار في لاس فيجاس أو غيرها ففيه الخلاف بين الجمهور والأحناف ومن معهم.
– ومن خرج للهو مثل مشاهدة دورات رياضية مثل كأس العالم والأولمبياد وغيرها، فهو على الخلاف السابق:
فما كان من هذه الألعاب مباحا ككرة القدم والسلة وغيرها فجائز القصر عند الجميع، وما كان ممنوعا شرعا مثل مشاهدة مسابقات سباحة النساء والجمباز حيث التعري، وكذلك الملاكمة التي فيها ضرب الوجوه والتعذيب فهذه على الخلاف المذكور بين الأحناف والجمهور.
– قد أشرت من قبل إلى أن بعض الفقهاء المجتهدين منهم داود بن علي وطاوس وإبراهيم التيمي قد اشترط في السفر أن يكون طاعة كالحج والجهاد، واستثنى حتى السفر المباح من القصر.
المفتي: د خالد نصر
الأول: نية السفر:
والمقصود به هنا أنه ينوي بمفارقته داره وموطن سكناه السفر العرفي، لا أن يخرج هائما على وجهه في البلاد دون نية الانتقال من حيز إلى حيز.
الثاني: مدة السفر:
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المدة التي يتحول بها السفر إلى حضور، وهذا بيان آرائهم:
١- مذهب الجمهور من المالكية والشافعية وقول عند الحنابلة، وفيه أن من نوى الإقامة في محلة غير بلده مدة أربعة أيام فأكثر فليس له القصر.
واختلفوا في يوم الدخول والخروج، فعد الإمام أحمد من الأربعة الأيام اليوم الذي يدخل فيه واليوم الذي يخرج منه، وذكر أنه إن أقام أكثر من عشرين صلاة أتم، ولم يعد مالك والشافعي يومي الدخول والخروج من المدة.
واستدل هؤلاء بأنه عمل أهل المدينة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمهاجر المعتمر أن يقيم في مكة ثلاثا بعد انقضاء نسكه، فدل على أن هذه مدة السفر والزيادة عليها تعتبر إقامة في دار الكفر لا تجوز في ذلك الوقت.
وكذلك استدلوا للتفريق بين حد الإقامة والسفر بفعل عمر مع يهود الحجاز حين أجلاهم منها وأذن لهم في التجارة، على ألا يقيموا أكثر من ثلاث، فدل على أن ما زاد على الثلاث يعتبر إقامة.
٢- الثاني مذهب السادة الأحناف وفيه أن المسافر إذا نوى الإقامة في البلد التي سافر إليها خمسة عشر يومًا أو أكثر، فيصبح له حكم المقيم فلا يشرع له القصر عند ذلك، أما إذا لم ينو الإقامة فيجوز له أن يقصر مهما طالت مدة سفره، وعلى ذلك فمدة القصر هنا أن يكون السفر لأقل من خمسة عشرة يوما.
واستدل الأحناف بما روي عن عمر وابن عباس حيث قالا: “إذا قدمت بلدة، وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما، أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن”.
وكذلك قاسوها على مدة طهر المرأة، لأن السفر يجامعه اللبث، فقدرناها بمدة الطهر; لأنهما مدتان موجبتان.
٣- أن مدة القصر هي تسعة عشر يومًا، فإن زاد أتم الصلاة:
وهذا قول عند الشافعية وإسحاق بن راهويه، ووصفه الترمذي بأنه أقوى الآراء، واستدلوا له بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس قال: “أَقَامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وإنْ زِدْنَا أتْمَمْنَا”.
٤- مذهب ابن تيمية ومعه بعض الفقهاء أنه لا يتوقت السفر بالمدة، وإنما بالصفة، فما دام المرء مفارقا داره ومحلته وهو في عرف القوم مسافر، فهو مسافر وله أحكام السفر حتى لو أقام في بلد آخر شهرا أو أكثر.
واستدل بعموم لفظ السفر في الأعذار ومنه:
– ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [البقرة: 184].
– ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [النساء: 43].
ولا يخفى ضعف الاستدلال هنا، لأنه لو كان للسفر عموم فلا بد أن يكون للمرض أيضا عموم، فيفطر الصائم لكل ما يسمى مرضا ولو بعض الصداع أو قليل الألم، وهذا لا يقول به أحد، بل لا بد أن يكون المرض معتبرًا للفطر فكذلك السفر.
وقالوا: إن الله لم يفرق بين سفر وسفر، وإن أدلة تحديد المدة كلها محتملة وليس فيها نص غير الاستنباط.
هذا ما يخص مدة السفر.
وبقي أن نشير إلى أن نية الإقامة بالمدة على كل مذهب تمنع القصر من بدء السفر، فلا تجيزه في أول مدته سواء كانت أربعة أيام أو خمسة عشر أو تسعة عشر.
فإما أن تكون هناك رخصة في السفر أو لا تكون وحدها هو المدة على كل مذهب.
وعلى ذلك:
– فمن خرج في سفر وهو ينوي الإقامة خمسة عشر يوما فأكثر وهو يأخذ بمذهب الأحناف مثلا فليس له قصر الصلاة لا في اليوم الأول ولا في غيره.
– ومن خرج في سفر فاق مدة القصر على مذهبه لا يقصر في نهاية المدة إذا بقي منها ما يقع به القصر، لأنه في حكم المقيم حتى آخر لحظة.
– ومن خرج في سفر فاق مدة القصر على مذهبه ثم تغير جدول السفر بأن قصرت المدة عن مدة القصر؛ فإن تغيرت قبل إنشاء السفر فله القصر، وإن تغيرت بعد إنشاء السفر فليس له القصر لأنه بالنية اعتبر مقيما.
– ومن أنشأ سفرا لأقل من مدة القصر على مذهبه ثم تغير جدوله؛ بأن طرأ التغيير لمدة أقل من مدة القصر استمر في قصر الصلاة، وإن تغير في مدة أطول من مدة القصر على مذهبه، صار مقيما بالنية الجديدة وليس له القصر.
– ومن أنشأ سفرا على تقليد مذهب معين؛ ثم أراد أن يقلد مذهبا آخر فله ذلك ويلتزم بلازم المذهب الآخر في بقية أحكام الصلاة.
وذلك كمن أراد أن يقلد الأحناف في القصر بعد أن قلد الجمهور فيه، فهنا ليس له الجمع مثلا لأن الأحناف ليس عندهم جمع للسفر، إلا الجمع الصوري.
الثالث: المسافة المعتبرة في السفر لقصر الصلاة:
اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تعتبر سفرًا تتغير معه الأحكام كالقصر والجمع وإفطار الصائم وسقوط فريضة الجمعة، وهذا تفصيل مذاهبهم:
١- مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وهو اختيار أبي يوسف من الأحناف، ومفاده أن مسافة القصر هي أربعة برد وتساوي تقريبا ثمانية وثمانين كيلو مترا بالمقياس الحالي (حوالي أربعة وخمسين ميلا)، وقيل تساوي أربعة وثمانين كيلو مترا أي حوالي اثنين وخمسين ميلا.
واستدلوا بالآتي:
– عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: “يا أهلَ مَكَّةَ، لا تَقْصُروا في أقلَّ مِن أربعةِ بُرُد، وذلِك مِن مَكَّةَ إلى الطَّائفِ وعُسْفَانَ” [الشوكاني في نيل الأوطار].
– عن عَطاءٍ قال: “سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ: أأَقْصُرُ الصَّلاةَ إلى عَرفَةَ؟ فقال: لا، ولكن إلى عُسْفانَ وإلى جُدَّة، وإلى الطَّائِفِ” قال مالكٌ: “بَينَ مَكَّةَ والطَّائِفِ وجُدَّة وعُسْفَانَ أَربعةُ بُرُدٍ” [الموطأ].
– عن عَطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ: “أنَّ ابنَ عُمرَ وابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما كانَا يُصلِّيانِ رَكعتينِ، ويُفطِرانِ في أَربعةِ بُرُدٍ فما فَوقَ ذلِك” [البخاري تعليقا].
– عن سالِمٍ ونافعٍ، عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: “أنَّه كان يَقصُرُ في مسيره اليومَ التامَّ. قال مالك: وذلك أَربعةُ بُرُد” [الموطأ والمصنف].
٢- مذهب الأحناف:
أن مسافة القصر هي المسافة التي يقطعها المسافر الذي يسير سيرًا متوسطًا في ثلاثة أيام.
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ» [ابن ماجه والدارقطني]. وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك, ولأن الثلاثة متفق عليها, وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق. فيعمل بالمتفق عليه في العبادة، وقال الإمام الشافعي: هو الأحوط.
ومن المعلوم أن المسافة هنا ستزيد بمقدار الثلث عن مذهب الجمهور الذين قدروا السفر بيومين معتدلين.
٣- مذهب الظاهرية ووجه عند الحنابلة وهو اختيار ابن تيمية وتابعه ابن القيم والشوكاني، ويقول بأنه لا مسافة محددة لقصر الصلاة، فكل من خرج في سفر قصر أو طال فله أن يقصر الصلاة.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101] حيث أشار إلى السفر بالمطلق، والضرب في الأرض يصدق في القريب وفي البعيد.
واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما قال: “صَحِبتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان لا يَزيدُ في السَّفرِ على رَكعتينِ، وأبا بَكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ كذلِك رَضِيَ اللهُ عنهم”.
فأطلق لفظ السفر.
وأثر ابن عمر الذي قال: “لَوْ خَرَجْتُ مِيلًا لَقَصَرْتُ الصَّلَاةَ”.
ولكن يراعى هنا:
– أن المسافة تتعين من خارج حدود البلد لا من الدار، وحدود البلد إما أن تكون نهايتها بانتهاء ضواحيها، أو مخرجها المتعارف عليه كالمطار أو الميناء أو محطة القطار.
– لا يشترط في المسافة أن تكون خطًّا مستقيمًا؛ فمن كان عليه أن يناور في سفره حول الجبال والغابات ما يزيد المسافة فهي معتبرة.
– لا تأثير لوسيلة السفر، فيستوي في الرخصة (العزيمة عند الأحناف) من سافر على قدميه أو على ناقة أو في سفينة أو طائرة أو في سيارة، فالعبرة في الرخص بالعلة وليس الحكمة.
– القصر لا يكون إلا بعد إنشاء السفر وليس قبل الخروج ولو نواه، ولكن لا يشترط أن يبدأ القصر بعد وصول الغاية، فله أن يقصر أثناء الطريق وإن لم تكن قد وقعت المسافة في حدها الأقل، وذلك لاعتبار النية والحالية.
– من أخذ برأي الظاهرية لا يقصر إلا خارج المصر أيضًا بالوصف السابق.
– من نوى سفرًا لمسافة القصر عند من يحدد مسافة للقصر، ثم قرر العودة وقطع الرحلة، فقد انقطع سفره وعليه التمام إن لم يبلغ الحد الأدنى الذي تقصر معه الصلاة.
– من نوى سفرًا قصيرًا دون مسافة القصر ثم طال سفره لمسافة القصر؛ له أن يقصر الصلاة وإن لم ينو هذه المسافة؛ لأن العلة هي السفر مع حصول المسافة.
– من فاتته صلاة في السفر حتى مضى وقتها قضاها في الحضر قصرًا، ومن فاتته صلاة في الحضر حتى فات وقتها قضاها في السفر كاملة.
ومن وجبت عليه صلاة في السفر وله القصر فأتى حاضرته ووقت الصلاة ما زال وقت أداء، فله أن يصليها قصرا على رأي السادة الأحناف، وعليه الإتمام على رأي الجمهور.
الرابع: أن يكون السفر مباحًا:
واختلف العلماء في ذلك أيضًا:
١- ذهب الجمهور لاشتراط الإباحة في السفر لجواز الرخصة (وهنا يشمل سفر الطاعة كالحج وسفر الزيارة للأهل وهو مستحب، وسفر الرحلة وهو مباح في أصله).
وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
واستدلوا بقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ﴾ [المائدة: 3].
فجعل العذر بشرطي الاضطرار وعدم قصد المعصية، فمن قصد المعصية لم يفد من رحمة الشريعة ورخصتها.
وفي الترخيص في الواجبات في سفر المعصية إعانة عليه وتخفيف على العاصي، وهذا يخالف مقاصد الشريعة.
٢- وذهب الأحناف ورأي عند المالكية والظاهرية وهو اختيار ابن تيمية والشوكاني إلى أنه لا يشترط في السفر أن يكون مباحًا لقصر الصلاة.
واستدلوا بعموم قوله تعالى ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101]. والضرب هنا عام لم يخصص بطاعة أو غيرها.
وفي حديث مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “فرَضَ اللهُ الصَّلاةَ على لِسانِ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَضَر أربعًا، وفي السَّفَرِ ركعتينِ، وفي الخوفِ ركعةً”. وهذا عام في كل سفر.
وكذلك نحن لا نفرق في صلاة الجمعة التي هي بديل الظهر وفيها ركعتان بدل أربعة بين طائع وعاص، ولا يقال للعاصي: عليك صلاة أربع ركعات ظهرًا.
وكذلك لما جاز للعاصي أن يأخذ برخصة التيمم في السفر جاز له أن يأخذ بعلة السفر في الترخص في نظائر ذلك.
وعلى ذلك:
– من خرج للحج أو لزيارة أهله أو لزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم أو لزيارة الجامع الأزهر أو غيره فله القصر على المذاهب الأربعة.
– ومن خرج للعب القمار في لاس فيجاس أو غيرها ففيه الخلاف بين الجمهور والأحناف ومن معهم.
– ومن خرج للهو مثل مشاهدة دورات رياضية مثل كأس العالم والأولمبياد وغيرها، فهو على الخلاف السابق:
فما كان من هذه الألعاب مباحا ككرة القدم والسلة وغيرها فجائز القصر عند الجميع، وما كان ممنوعا شرعا مثل مشاهدة مسابقات سباحة النساء والجمباز حيث التعري، وكذلك الملاكمة التي فيها ضرب الوجوه والتعذيب فهذه على الخلاف المذكور بين الأحناف والجمهور.
– قد أشرت من قبل إلى أن بعض الفقهاء المجتهدين منهم داود بن علي وطاوس وإبراهيم التيمي قد اشترط في السفر أن يكون طاعة كالحج والجهاد، واستثنى حتى السفر المباح من القصر.
المفتي: د خالد نصر