(ف38) ما حكم إنشاء الجماعات الإسلامية في أيامنا هذه سواء لهدف ديني أو سياسي أو اجتماعي؟ وحكم الانتماء إليها؟ طبعًا المؤسسون يدعون أن الأصل في الإسلام الجماعة والعمل ضمن جماعة، لكن نرى في الواقع أن جل هذه الجماعات تصبح إقصائية للمسلمين غير المنتمين لها، وهذا في أفضل الأحوال، وفي الأسوأ تصبح منفرة أو حتى تكفيرية، وقد رأينا فعلًا في السنوات الأخيرة أن هذه الجماعات كانت وبالًا على المجتمعات التي قويت فيها، حتى أصبح عامة الناس ينفرون من كل هذه الجماعات وحتى من الدين كله بسببهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أفيدونا جزاكم الله خيرا.

أقول ومن الله التوفيق:
أولا: الأصل العام الذي جاء في القرآن والسنة أن تكون الأمة جمعا واحدا؛ قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]. وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]. وفي السُّنَّةِ وردت أحاديث تدل على أن الله يحب الجماعة، وهي جماعة الإسلام والمسلمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: «يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» [رواه الترمذي]. وقال: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةِ» [رواه الحاكم في المستدرك]. وفي سؤال حُذيفة في حديث فتن آخر الزمان، قال: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ. قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ، قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» [متفق عليه]. فالحديث فيه التزام جماعة المسلمين، وهذا الأصل لا يجادل فيه أحد.
ثانيا: لم يغفل الإسلام تنوع الناس ثقافة وفهما ولغة وجهة فتسامح أن يجتمع قوم على واحدة مما ذكر ولكن جعل لها شروطا سنتكلم عنها. فقد وجدنا أن المهاجرين احتفظوا بهذا الاسم والأنصار تميزوا بهذا الاسم وأهل الصفة تميزوا عن غيرهم بهذا الاسم وأهل القرآن. يروى أن المسلمين انهزموا في ساعة قتال مع أنصار مسيلمة، ولما رأى خالد ما الناس فيه واختلاط جيشه، أراد أن يميزهم لتدب فيهم روح الغيرة فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ امْتَازُوا لِنَعْلَمَ بَلاءَ كُلِّ حَيٍّ، وَلِنَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى). وكان أهل البوادي قد جنبوا المهاجرين والأنصار، وجنبهم المهاجرون والأنصار، فلما امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم يستحى من الفرار. فما رئي يوم أعظم نكاية. فهذا خالد يقسم الناس على القبائل والجهات لغرض التحفيز لا التقسيم، وعلى هذا الفهم استمر العمل وتوسع الناس فيه يتمايزون عن بعضهم بسبب الجهة أو المذهب أو طريقة السلوك.
ثالثا: إذا كان هذا واقع الحال فقد جعل الإسلام لذلك شروطا منها:
١- عدم التعصب للطائفة دون غيرها.
٢- عدم معاداة المخالف لكونه مخالفا.
٣- أن يكون الاختلاف من باب التنوع لا التضاد.
٤- أن تكون الغاية نصرة الإسلام عند كلٍّ، والسبيل هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وميراثه.
٥- أن يحكم الجميع قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
٦- ألا تظن طائفة أنها الوحيدة الناجية دون الآخرين.
٧- ألا نفسق ولا نبدع ولا نتهم بالضلال إلا بدليل بَيِّنٍ واضح وضوح الشمس في منتصف النهار الرائق.
٨- أن يقبل كل منا تأوُّل الآخر ما كان التأويل مستساغا. فإذا وقعت هذه الشروط لا عليك أن تتسمى مهاجريا أو أنصاريا أو غيرها.
رابعا: قد يسأل سائل: إذا كان الإسلام يشملنا جميعا فلماذا يسعنا وجود هذا الجماعات؟
وأقول: إن الجماعة والمذهب والطريقة بالشروط السابقة ما هي إلا وسيلة تتنوع بها مصادر الخير، ولنأخذ مثلا جماعة التبليغ، هي جماعة لا تشغلها السياسة ولا يعنيها الاختلاف الفقهي والكلامي، وإنما اهتمامها بدعوة الناس بصورة مبسطة وإلى واجبات عامة، فهي بهذه النية مقبولة إذا التزمت الشروط السابقة.
على حين نجد أن جماعة أخرى كمنظمة (كير) تهتم بحقوق المسلمين ومستقبلهم السياسي والاجتماعي وغير ذلك من الحقوق، فهي مقبولة ما التزمت بالضوابط السابقة. وهكذا نحكم على الهيئات والجماعات والمنظمات. فلا يمنع أن يكون للأئمة مثلا هيئة تهتم بحقوقهم وتنمي قدراتهم ولا ينتسب إليها إلا الأئمة، وكذا للقراء، إلى غير ذلك.
خامسا: ينصرف ما قلناه من شروط على قضية أخرى متصلة، وهي قضية التمذهب، فلا عليك أن تكون حنفيا أو مالكيا أو غير ذلك بشرط أن تكون إما عالما بما تقول وتستطيع أن تدفع عن مذهبك بالدليل، أو أن تكون مقلدا لمفتيك أو معلمك أو مذهب قومك دون الطعن في مذاهب الآخرين. كما أن هناك بعدا آخر من التنوع يظهر مثلا في التصوف، فالتصوف ليس مذهبا من المذاهب، ولا دخل له بتوجيه الأدلة أو استنباط الأحكام كما هو حال المذاهب، وإنما هو في صورته النقية طريقة في التَّذوق والتطبيق، فالصوفي الذي يرفع يديه مرة واحدة في الصلاة على مذهب الأحناف ومن معهم هو الصوفي الذي يرفع يديه أربع مرات على مذهب الحنابلة ومن معهم، والذي يجمع بينهما هو تذوقهم لحقيقة الصلاة وأسلوب أدائها، وهذا نوع من التنوع مطلوب مرغوب.
سادسا: نصل إلى جوهر السؤال وهو الفتوى في الجماعات بتطبيق القواعد السابقة على واقع الحال، وأقول: إن من يرى أحوال الجماعات وما آلت إليه من خلاف وصدام ونفرة وفرقة واقتتال وسباب وتلاسن واتهامات بالتضليل والانحراف لا يستثنى منه إلا من رحم ربي، أقول: من ينظر إلى واقع الحال لا بد أن يمتنع عن الانتماء لهذه الجماعات القائمة، وأن ينتمي فقط إلى كتلة الأمة وروحها، وإن يلزم صف عموم المسلمين، ولا يعطي بيعة ولا التزاما إلا للأفعال دون الأقوال أو الرجال، فمن فعل الخير كنَّا معه كائنا من كان.
وأعود وأؤكد: من فعل الخير، فالأمر مرده الأفعال، فهذه الحركات من إخوان وسلفية وجهادية بالنظر إلى أفعالها لا إلى أقوالها أو شعاراتها نجد أنها بعيدة عن تطبيق الشروط التي ذكرناها، ونجد أنها تفرق أكثر مما تجمع، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة على حسب منهج الجماعة. وأخطرها في رأيي هي الجماعات التي تدعي العلم وتستأثر بالحكمة وتزعم أنها بقية السلف والفرقة الناجية المذكورة في حديث الفرق -والذي لا يسلم من كلام-.
أقول: هذه الطائفة هي وراء كل بلاء ومنها تفرعت وترعرعت الأفكار التكفيرية الإقصائية التي تحتقر عموم أهل الإسلام. كذلك من أخطر هذه الجماعات تلك التي لها ظاهر للناس وباطن يخص أفرادها ومريديها، فهي تستقيم للناس ما استقاموا لفكرها، أما إن خالفوه فالقطيعة عليه، فدعوتي لعموم أهل الإسلام إن ينضافوا للأمة لا لفرقة، ولهم أن ينخرطوا في ما يتمايز به الناس من فعل الخير كالهيئات والمنظمات ولكن بالشروط السابقة. هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر