(ف383) هل يجوز للأب أو الأم مراقبة تليفونات أولادهما بهدف توجيههم في حالة الشك بأن يكون لهم تواصلات تضرهم؟

أولا: حكم التجسس في العموم:
نهى الإسلام عن التجسس على العباد بصفة عامة، وعد ذلك من سوء الأخلاق، لا سيما إن تعلق الأمر بمعصوم ديانة أو قضاء، أصالة أو إلحاقا.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾[الحجرات: 12].
وفي السنة النبوية نجد حديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» [متفقٌ عليه].
والتحسس طلب الخبر بالسمع، والتجسس طلبه بالبصر، أو التحسس طلب علم الغائب، والتجسس طلب علم القائم المجهول.
ومنه قوله في حديث ثوبان رضي الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِه»[أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الأوسط].
وقد بالغ النبي في النهي عن التجسس وتتبع ما يخفيه الناس؛ فجاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ نَظَرَ في كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ في النَّارِ»[أخرجه أبو داود في سننه]، وهذا وإن كان يخرج مخرج المبالغة إلا أنه يدل على عظم كشف الأسرار ، وهتك الأستار.
ومنه ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ وَلَا قِصَاصَ»[أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سننه والدارقطني في سننه].
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِى أُذُنِهِ الْآنُكُ»[أخرجه البخاري].
فهذا هو الأصل في كل تجسس وتحسس، ولا يستثنى منه إلا ما جاء به النص، سواء كان دليلا أو استدلالا .
ثانيا: يستثنى من عموم النهي عن التجسس، التجسس على العدو؛ لأن ذلك من الإعداد والحيلة، ومن رباط الحرب (المعلومة).
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عمليًّا وكان له جملة من الجواسيس والعيون على أعدائه، ومنهم العباس بن عبد المطلب، وحذيفة بن اليمان، ونعيم بن مسعود، وعبد الله بن أنيس، وخوات بن جبير، وعمرو بن أمية، وسالم بن عمير وغيرهم، بل كان له عيون من غير المسلمين كحلفائه من خزاعة.
ولكن الضابط المهم أن تجسس النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أمور الحرب والقتال والجهاد، ولم يتجسس على عدوه في أمور خاصة، أو تمسّ الأعراض، والشرف.
كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يتوسع في تعريف العدو، بل اكتفى بالعدو الظاهر والمقاتل.
ويستثنى منه ما يقوم به الحاكم من مراقبة من يتولون أمور الولايات العامة كالقضاء والإدارة والماليات.
ويستثنى من ذلك الإعلام بطريقة المراقبة، كالشاشات في العمل، والتي تكون في الأماكن العامة.
ثالثا: تتبع أخبار الأولاد بالمراقبة والتجسس على وسائل التواصل المختلفة:
الأصل أن ذلك من الممنوع أيضا؛ لأن الأولاد وإن كانوا ثمرة الآباء، إلا أن لهم اعتبارا منفصلا في الشريعة معتبرا في الحقوق والواجبات، وفي التكاليف الشرعية.
ورعاية خصوصية الأولاد مندوبة، ولا يجوز خرق هذه الخصوصية إلا لضرورة تتعلق بأحد مقاصد الشريعة العامة، كحفظ نفسه، أو عقله، أو عرضه.
والدليل على ذلك:
١- عموميات نصوص النهي عن التجسس.
٢- ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في نهي الراعي عن التجسس على رعيته:
ففي حديث معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّكَ إِذَا اتَّبَعْتَ الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ، فَإِنِّي لَا أَتَّبِعُ الرِّيبَةَ فِيهِمْ فَأُفْسِدَهُمْ»[أخرجه البخاري في الأدب المفرد].
ومنه حديث أبي أمامة عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ»[أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده].
٣- ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم ومنه:
ما جاء في سنن البيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس مع عمر ليلة بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذ باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر رضي الله عنه، وأخذ بيد عبد الرحمن فقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن بشرب، فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه ﴿ولا تجسسوا﴾ فقد تجسسنا، فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم.
وما جاء في المصنف قال: أتي ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا منه شيء نأخذه به.
وعلى ذلك فلا يجوز للوالدين بسلطان الأبوة التجسس على الأولاد، إلا في حالات الضرورة التي تتعلق بمقاصد الشريعة، ومن أمثلة ذلك:
– ظهور علامات قوية على تعاطي المخدرات.
– ظهور علامات وقرائن على اتخاذ خليل من قبل البنت.
– ظهور علامات وقرائن قوية مشاركة خيانة لله ورسوله.
أما مراقبة الأولاد في الصغائر، وكذلك فيما يشاهدون أو يلعبون، فهذا من التجسس الممنوع، ومن سوء الظن وسوء التربية؛ لأن طلب عصمة الأولاد من الخطأ والزلل محال على بني آدم من غير المعصومين. كما أنه يخرج جيلا خائفا.
والأصل أن يكون لكل مكلف خصوصية بينه وبين الله، ومساحة من الستر.
المفتي: د خالد نصر