(ف392) ما حُكمُ الشرع في الشِّراءِ منَ المتاجرِ الكبيرةِ، مثل وولمارت وغيرِها، بنيَّةِ استخدام البضاعة لفترة قصيرة والاستفادة منها، ثم استرجاعها خلال فترة السَّماحِ واسترداد كامل المبلغ؟ كمثل شراء بدلة أو إكسسوار لحضور مناسبة أو غير ذلك. وكثير من الناس يفعلون هذا، وقوانين وولمارت وأمثالها تسمح باسترداد كامل المبلغ؟

ما ورد في مسألة الرجوع في البيع مع قيام شرط الخيار هو مما انتشر وعمت به البلوى في كثير من البلاد الغربية.
وقبل أن أجيب أحب أن أذكر بعض المقدمات فيما يتعلق بالأمر من جهة التأصيل والقواعد العامة، سواء في جزئها الشرعي أو الأخلاقي.
١- هناك فرق بين أمرين:
التجاوز في استعمال الحق، والتعسف في استعمال الحق!
فالتجاوز في استعمال الحق كمن يبني في ملكه ولكنه يقيم الجدار على آخر حد الملك المجاور لمرور الناس بحيث تكون فسحة داره مستفادة من الملك العام (لذا تشترط القوانين في كثير من البلاد الرجوع عن حد الملك بمقدار معين يكون زيادة في الطريق وحرما للدار).
وأما التعسف في استعمال الحق فهو كمن يقيم حائطا عاليا في ملكه وينتج عنه حجب الهواء والشمس عن جاره.
وقد يجتمع التجاوز والتعسف في مسألة واحدة؛ وذلك كمن يوصي بأكثر من الثلث في ماله وهو ينوي بذلك الإضرار بالورثة، فيكون متجاوزًا فيما زاد على الثلث، ومتعسفًا بنية الإضرار حتى في المقدار الشرعي وهو الثلث، فيجتمع له في مسألة واحدة مخالفتان.
٢- لا بد كذلك أن نفرق بين حكم الفعل قضاء وديانة، فقد يقع الفعل في القضاء ولكنه يوجب الإثم في الديانة، إذ مرد القضاء للظاهر من أمر المكلفين وصورة الفعل، ومرده في الديانة يزيد على ما سبق باعتبار النية، ومثال ذلك ما ذكره القرآن في قضية عضل النساء!
وقد كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة أرجعها الزوج إلى عصمته وهو غير محتاج إلى مراجعتها يريد الإضرار بها حتى لا تتزوج غيره ثم يطلقها الرجل بعد ذلك، فتدخل في العدة الواجبة على كل مطلقة، فإذا قربت العدة أن تنتهي طلقها طلقة أخرى، حتى تبدأ عدة أخرى فتطول عليها العدة فتنتظر مدة طويلة قبل أن يصح لها أن تتزوج غيره.
وهذا الفعل جائز من جهة القضاء، إلا أنه ممنوع بالنص من جهة الديانة، واعتبر نوعًا من الظلم، قال تعالى: ﴿‌وَمَنْ ‌يَفْعَلْ ‌ذَلِكَ ‌فَقَدْ ‌ظَلَمَ ‌نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 231].
٣- وللتعسف في استعمال الحق شروط كي يترتب عليه مؤاخذة وهي:
– قصد الإضرار بالغير، وذلك كمن يهدم جداره الذي يستر جاره وليس عند جاره جدار مماثل بغرض هتك ستره.
– أن تكون المصالح التي يرمى إلى تحقيقها لا تتناسب مع ضرر الغير، وذلك كأن يكون له داران متقابلتان وبينهما ممر الناس، فيصل بينهما بسقف، يمنع مرور أحمال الناس، فمنفعته في وصل المبنيين بمسقوف لا تتناسب مع تعطل مرور أصحاب الأحمال.
– أن تكون المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة، وذلك كمن ينزل داره اللصوص أو يؤوي محدثًا في مزرعته، ومنه أيضا أن يقوم بتحليل مطلقة لزوجها، ومع أن الزواج من مطلقة الغير مباح في أصله وحق لكل من صح منه الزواج، إلا أنه يصير غير مشروع إذا قصد به تحليل المؤبدة، ويكون تعسفًا في استعمال الحق.
فإذا خلا الفعل عن هذه المحترزات، صار حقًّا خالصًا لفاعله، لا يحجر عليه فيه.
٤- أن الأصل في التعاملات ألا تقوم على الخيانة والخديعة، وهو الأصل كذلك في باب البيوع، قال صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» [متفق على صحته].
والملاحظ هنا في النص أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهما متبايعين، مع أن أحدهما بائع والثاني مشترٍ، ولكن لما كان هناك عقد معاوضة، يسلم فيه كل ما يجب عليه، فقد صار كل واحد آخذًا ومعطيًا في ذات الوقت، ويجب عليه الصدق فيما يعطي.
ومن الصدق في شأن المشتري قصده حقيقة الشراء، لا منفعته فقط.
ولذا نجد أن السادة الأحناف الذين يجيزون العقد الفاسد في دار الكفر يشترطون فيه ألا ينطوي على غدر وخديعة، فإذا وقع بالغدر والخديعة بطل ولم يفسد فقط.
٥- هناك فرق بين ما يقع من الأفراد، وبين ما يقع من المجموع، فقد يقع التساهل في فعل فرد من صاحب حق، ولكنه إذا خرج من دائرة الفردية للمجموع صار ممنوعًا، وذلك كمن يضيء بيته في وقت عيد ويزينه بالأنوار، مما يزيد الاستهلاك للكهرباء، فيمر من جانب الجواز، فإذا وقع من كل أهل المدينة مرة واحدة مع ما قد يجلبه من زيادة الأحمال، وانقطاع التيار عن المستشفيات والشوارع والأماكن التي يجب إضاءتها، صار الأمر تعسفًا من الجميع ومنه الكل، وإن جاز للفرد سابقًا.
٦- لا بد من مراعاة العرف الاجتماعي في مسألة المعاملات، ومنه كيفية توصيف أفعال المكلفين:
ومن ذلك مثلا إتيان المعقود عليها في فراش أبيها، فهو وإن جاز بحق العقد إلا أنه يخالف معقود العرف، الذي يقيد الحق بفراش الزوج.
والعرف الاجتماعي يتسامح مع من يرجع في البيع لعلة ولغير علة، ولكنه لا يدخل في هذا من اشترى بنية الاستعمال الشخصي وهو ينوي الرجوع في البيع، بل إنه يعتبر من يقوم بهذا مخادعًا، والعرف هنا مستصحب، وعلى هذا يفهم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس: «وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَخِفْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».
فهذه مقدمات أعتقد أنها مهمة للمفتي فيما ذكرناه في العنوان.
وعليه:
فلا يجوز للمسلم ديانة شراء شيء من فرد أو مؤسسة وهو ينوي استعماله لفترة السماح، ثم يقوم برده على صاحبه؛ لأن في ذلك مفاسد منها أنه استعمل الخديعة لتحصيل منفعة، ومنها أنه أضاع على صاحب المال فرصة بيعه لغيره ممن ينتوون استعماله، ومنه أنه هدر للمال إذا كثر هذا الفعل وعم في المجتمع، ومنه أنه تعسف في استعمال الحق العرفي في غير ما وجد له هذا الحق، ومنه أنه قد يؤدي إلى ضرر بالإسلام والمسلمين إذا علم أن هذا الفعل من سلوكهم المستقر.
أما إذا وجدت علة لرد البيع، أو زال سبب الشراء بوقوع النظير أو البديل، أو وقعت حاجة لثمن السلعة، فيجوز الرجوع في البيع بالشرط المشروط بين المتبايعين.
المفتي: د خالد نصر