(ف394) تدافع أهل منطقة في خان يونس على تكية طعام وكان القدر يغلي بالطعام فوقع نتيجة التدافع على طفل يبلغ من العمر عشر سنوات. وتوفي في هذا الوقوع. طلب أولياء الطفل من الحضور دفع دية الطفل لأنهم تسببوا في موته، ولكن الأهالي رفضوا دفع الدية لأن التدافع نشأ عن الوضع الإنساني لأهل غزة. في مثل هذه الحالات من يدفع الدية؟

بادئ ذي بدء، ندعو الله أن يرفع البلاء عن أهلنا في فلسطين، لاسيما في غزة، ونسأله أن يتقبل هذا الطفل في غلمان أهل الجنة.
وبعد: فهذه نازلة تقع في مثل هذه الأوقات الصعبة، وفي وقت حاجات الناس، والتي تقع من الحاجات موقع الضرورة، للحصول على بعض الماء أو الطعام، مما يحتمل التدافع.
وقبل أن أذكر ما اجتهدت فيه في هذه النظائر، أذكر بعدة أمثلة وقعت في حوادث فيها بعض الشبه، بما نجتهد فيه.
الأولى: قصة الزبية:
والزبية بضم الزاي وسكون الباء بعدها ياء هي حفرة الأسد، وتطلق أيضًا على الرابية بالراء.
– فعن حنش بن المعتمر عن علي رضي الله عليه قال : “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق الرجل بآخر حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم، ، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي رضوان الله عليه على تَفِيئَةِ ذلك [أي: على إثر ذلك]، فقال: تريدون أن تقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي؟! إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم به فهو القضاء، وإلا حجز [أي: كف عن القتال] بعضكم على بعض حتى تأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة فللأول ربع الدية لأنه هلك من فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث الدية، وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة. فأبوا أن يرضوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم”. [رواه أحمد، ورواه بلفظ آخر نحو هذا، وفيه: وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا].
والثانية واقعة القارصة والواقصة التي أوردها ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين، وفيها:
– (قال الشعبي : وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فركبت إحداهن على عنق الأخرى فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت أي كسرت عنقها فماتت، فرفع ذلك إلى علي عليه السلام، فقضى بالدية أثلاثًا على عواقلهن، وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة; لأنها أعانت على قتل نفسها).
والذي يظهر من ذلك أنه لا بد من مراعاة أمور في مسألة تحديد المسئولية في حال الاشتراك والتزاحم، ولا يجوز أن يتحمل الخطأ من انتهى إليه أمر التدافع؛ لأنه فاعل ومفعول به في ذات الوقت.
والثالثة: قصة الأعمى والبصير التي أوردها الشوكاني في نيل الأوطار:
– فعن علي بن رباح اللخمي أن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر بن الخطاب وهو يقول:
أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَا
هَلْ يَعْقِلُ الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا
خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا
وذلك أن أعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر، فوقع الأعمى على البصير، فمات البصير، فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى. [رواه الدارقطني].
فعلى ظاهر هذه النصوص تكون دية هذا الطفل في جمهور المتدافعين، كل في عاقلته.
والذي أراه:
أن واقع الحرب والمعارك يذهب بالدية مذهبا آخر، فتقع من أمرين:
– من غنائم العدو.
– أو من السلطان.
ودليلنا على ذلك ما وقع في معركة أحد من قتلِ اليمانِ حُسَيْلِ بْنِ جَابِرٍ من قبل المسلمين بالخطأ، فعن عروة بن الزبير قال: (كان أبو حذيفة اليمان شيخًا كبيرًا، فرفع في الآطام مع النساء يوم أحد، فخرج يتعرض للشهادة فجاء من ناحية المشركين فابتدره المسلمون فتوشقوه بأسيافهم وحذيفة يقول : أبي أبي فلا يسمعونه من شغل الحرب حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بديته). [رواه الشافعي والبيهقي في سننه].
وذكره أبو إسحاق الفزاري في السيرة عن الأوزاعي عن الزهري قال : (أخطأ المسلمون بأبي حذيفة يوم أحد حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فوداه من عنده).
وأخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة: (أن والد حذيفة قتل يوم أحد قتله بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (ورجاله ثقات مع إرساله).
وكذلك نستدل له بما رواه مسدد في مسنده [كما ذكر ابن حجر في الفتح] من طريق يزيد بن مذكور: (أن رجلا زُحِمَ يوم الجمعة فمات، فوداه علي رضي الله تعالى عنه من بيت مال المسلمين).
هذا من المنقول.
وأما من جهة المعقول فكل من حضر من المتزاحمين من الفقراء والمحتاجين، وقد دفعهم الجوع والعوز للتدافع، والحاجة ملجئة، وأحوال الحرب غير أحوال السلم.
فعلى ذلك تكون دية هذا الصبي عند السلطان تدفع لأهله إذا استقرت الأمور، ويمكن أن تؤخذ من غنائم العدو.
المفتي: د خالد نصر