قبل أن أجيب على السؤال أود أن أعلق على ما جاء في كلام الشيخ المذكور:
أولا: من جهة التكييف:
قال الشيخ: هي ممنوعة وهي معاملة ربوية لأنها في معنى: (أسلفني أسلفك).
ولا أدري كيف كيَّفَ الشيخ المعاملة من هذا الوجه، فحتى لو افترضنا ضمنيًّا أن الاتفاق، هو اتفاق قرض، فالصورة تكون: (أسلفني أرد لك).
يجتمع عدد من الناس ويتواطئون على دفعات تجمع من الجميع، وتُعْطَى لكل واحد منهم على حسب الجدول الزمني المتفق عليه، ويلتزم الآخذ برد ما أخذ من كل واحد في موعد محدد.
أما أسلفني أسلفك، فهي أن يعطي زيدٌ عَمْرًا قدرًا يُلْزَمُ عَمْرٌ أن يرده في وقت معين، على أن يعطي عَمْرٌ زيدًا قدرًا، في زمن آخر ويرده زيد على عَمْرٍ، فيكون عقد بمقابل عقد، وفيه آخذان ورَدَّان.
أما الجمعية فليس فيه إلا أخذ واحد، ورد متعدد، فكأنه استدان من جملة من الناس ورد عليهم مالهم على أوقات منجمة.
ثانيا: من جهة الواقع:
صورة الجمعية تختلف عن صورة القرض في أمور، ما يجعل منها أمرًا مستقلًّا، ومن ذلك:
– القرض يكون بالاتفاق بين مقترض ومقرض، على حين أن الجمعية تكون بين مساهمين بينهم التزامات.
– عادة القرض أن يكون من مليء لذي حاجة، على حين أنّ الجمعية تكون بين مساهمين مقتدرين.
– غرض القرض هو الارتفاق بالمقترض فهي تبرع يفضي لمعاوضة، على حين أن الجمعية هي عقد معاوضة من أوله.
– المنفعة في القرض هي للمقترض، ويقابلها الاحتساب للمقرض، على حين أن المنفعة في الجمعية موزعة على الجميع، ولا ينفرد بها واحد.
ثالثًا: من جهة المصلحة:
إذا نظرنا إلى القرض سنجد أن غرضه هو دفع حاجة المقترض أيًّا كانت، وذلك من خلال مال المقرض، فيكون للمقترض مصلحة، ليست للمقرض، بل على الحقيقة، يخسر المقرض برفع ملكه عن ماله مؤقتًا، مع إلزامه بتبعاته كدفع زكاته، وقيام المخاطرة.
أما إذا نظرنا إلى الجمعية فسنجد أن ما يدعو إليها أمران تقرهما الشريعة:
الأول: التكافل.
الثاني: الادخار.
فمن يدخل في مثل هذه المعاملات إما ساع لمنفعة عاجلة لا تحصل له إلا بالمال المجموع، أو خائف من ضياع ماله منفردًا عن غيره، فيرجو بالجمعية حصول المجموع جملة واحدة.
وكلا الأمرين جائز، بل التكافل مندوب في الشرع.
رابعًا: من جهة التعليل:
ما ذكره الشيخ الدودو من جعل: (أسلفني على أن أسلفك) من أمهات الربا، كلام فيه مجازفة من قائله:
وذلك أننا نفرق بين ما كان ممنوعًا لذاته، وما كان ممنوعًا سدًّا للذريعة، وقولهم: (أسلفني أسلفك) عندهم ممنوع لسد ذريعة الترابي، إذ ليس فيه ربا في ذاته، وغاية ما يقولون فيه، أنه من باب المنفعة المشروطة وهي ممنوعة، مثلها في ذلك مثل اشتراط أن يحمله على دابته، أو أن يكري منه داره، وهذه لا ربا فيها؛ لأنه ليس مالا بمقابل مال، ولكنه لما كان قد يفضي إلى زيادة في أصل الدَّيْنِ بالمعنى منعه الفقهاء، والدليل على ذلك أنه ليس ممنوعًا إن وقع في غير الدَّيْنِ، أو وقع بعد سداد الدين، أو وقع من غير شرط!
فعلة المنع هي الذريعة، وما كان هذا شأنه فهو جائز إذا قامت به المصلحة أو الحاجة.
خامسًا: من جهة المقاصدية:
نجد أن طريقة الجمعية تقع تحت مبادئ عامة محمودة في الشريعة ومنها:
– التعاون على البر ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
– تفريج الحاجات: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
– حفظ المال ﴿وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأنعام: 141].
– الاجتماع بين أصحاب المصلحة ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].
وعلى ذلك: فعمل ما يسمى الجمعية في العرف المشرقي أو (دارت) في العرف المغربي عمل جائز مباح في أصله، وقد ورد في كلام العلماء ما يدل على ذلك ومنه ما ذكره القليوبي الشافعي في حاشيته على شرح المحلي: (الْجُمُعَةُ المشهورة بين النساء: بأن تأخذ امرأة من كل واحدة من جماعة منهن قدرًا معينًا في كل جمعة أو شهر وتدفعه لواحدة بعد واحدة إلى آخرهن -جائزة؛ كما قاله الولي العراقي).
وأخيرًا من باب الوعظ أقول: إن الخطر الذي يهدد الأمة من خلال التحلل من أحكام الشريعة، يقابله خطر آخر يتمثل في تلك النظرة الظاهرية في تفسير كثير من معاملات الناس، ما يؤدي إلى هجرة البعض إلى رحابة العلمانية الدينية، التي يقابلها التفسير الكهنوتي لهذه المعاملات. كل هذا مع غياب البديل الظاهري أيضا لهذه المعاملات.
فهذا يمنع تسليم المال المحول عن طريق شركات التحويل لغياب التقابض!
وهذا يمنع المطاعم ذات المائدة المفتوحة لقيام الغرر!
وهذا يمنع الإيجار المؤدي للتمليك لأنه ينطوي على بيعين في عقد!
وهذا يمنع شراء الذهب بكروت الائتمان!
وهكذا .. ما يوقف كثيرًا من أبواب التجارة وتداول المال.
المفتي: د خالد نصر
أولا: من جهة التكييف:
قال الشيخ: هي ممنوعة وهي معاملة ربوية لأنها في معنى: (أسلفني أسلفك).
ولا أدري كيف كيَّفَ الشيخ المعاملة من هذا الوجه، فحتى لو افترضنا ضمنيًّا أن الاتفاق، هو اتفاق قرض، فالصورة تكون: (أسلفني أرد لك).
يجتمع عدد من الناس ويتواطئون على دفعات تجمع من الجميع، وتُعْطَى لكل واحد منهم على حسب الجدول الزمني المتفق عليه، ويلتزم الآخذ برد ما أخذ من كل واحد في موعد محدد.
أما أسلفني أسلفك، فهي أن يعطي زيدٌ عَمْرًا قدرًا يُلْزَمُ عَمْرٌ أن يرده في وقت معين، على أن يعطي عَمْرٌ زيدًا قدرًا، في زمن آخر ويرده زيد على عَمْرٍ، فيكون عقد بمقابل عقد، وفيه آخذان ورَدَّان.
أما الجمعية فليس فيه إلا أخذ واحد، ورد متعدد، فكأنه استدان من جملة من الناس ورد عليهم مالهم على أوقات منجمة.
ثانيا: من جهة الواقع:
صورة الجمعية تختلف عن صورة القرض في أمور، ما يجعل منها أمرًا مستقلًّا، ومن ذلك:
– القرض يكون بالاتفاق بين مقترض ومقرض، على حين أن الجمعية تكون بين مساهمين بينهم التزامات.
– عادة القرض أن يكون من مليء لذي حاجة، على حين أنّ الجمعية تكون بين مساهمين مقتدرين.
– غرض القرض هو الارتفاق بالمقترض فهي تبرع يفضي لمعاوضة، على حين أن الجمعية هي عقد معاوضة من أوله.
– المنفعة في القرض هي للمقترض، ويقابلها الاحتساب للمقرض، على حين أن المنفعة في الجمعية موزعة على الجميع، ولا ينفرد بها واحد.
ثالثًا: من جهة المصلحة:
إذا نظرنا إلى القرض سنجد أن غرضه هو دفع حاجة المقترض أيًّا كانت، وذلك من خلال مال المقرض، فيكون للمقترض مصلحة، ليست للمقرض، بل على الحقيقة، يخسر المقرض برفع ملكه عن ماله مؤقتًا، مع إلزامه بتبعاته كدفع زكاته، وقيام المخاطرة.
أما إذا نظرنا إلى الجمعية فسنجد أن ما يدعو إليها أمران تقرهما الشريعة:
الأول: التكافل.
الثاني: الادخار.
فمن يدخل في مثل هذه المعاملات إما ساع لمنفعة عاجلة لا تحصل له إلا بالمال المجموع، أو خائف من ضياع ماله منفردًا عن غيره، فيرجو بالجمعية حصول المجموع جملة واحدة.
وكلا الأمرين جائز، بل التكافل مندوب في الشرع.
رابعًا: من جهة التعليل:
ما ذكره الشيخ الدودو من جعل: (أسلفني على أن أسلفك) من أمهات الربا، كلام فيه مجازفة من قائله:
وذلك أننا نفرق بين ما كان ممنوعًا لذاته، وما كان ممنوعًا سدًّا للذريعة، وقولهم: (أسلفني أسلفك) عندهم ممنوع لسد ذريعة الترابي، إذ ليس فيه ربا في ذاته، وغاية ما يقولون فيه، أنه من باب المنفعة المشروطة وهي ممنوعة، مثلها في ذلك مثل اشتراط أن يحمله على دابته، أو أن يكري منه داره، وهذه لا ربا فيها؛ لأنه ليس مالا بمقابل مال، ولكنه لما كان قد يفضي إلى زيادة في أصل الدَّيْنِ بالمعنى منعه الفقهاء، والدليل على ذلك أنه ليس ممنوعًا إن وقع في غير الدَّيْنِ، أو وقع بعد سداد الدين، أو وقع من غير شرط!
فعلة المنع هي الذريعة، وما كان هذا شأنه فهو جائز إذا قامت به المصلحة أو الحاجة.
خامسًا: من جهة المقاصدية:
نجد أن طريقة الجمعية تقع تحت مبادئ عامة محمودة في الشريعة ومنها:
– التعاون على البر ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
– تفريج الحاجات: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
– حفظ المال ﴿وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأنعام: 141].
– الاجتماع بين أصحاب المصلحة ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].
وعلى ذلك: فعمل ما يسمى الجمعية في العرف المشرقي أو (دارت) في العرف المغربي عمل جائز مباح في أصله، وقد ورد في كلام العلماء ما يدل على ذلك ومنه ما ذكره القليوبي الشافعي في حاشيته على شرح المحلي: (الْجُمُعَةُ المشهورة بين النساء: بأن تأخذ امرأة من كل واحدة من جماعة منهن قدرًا معينًا في كل جمعة أو شهر وتدفعه لواحدة بعد واحدة إلى آخرهن -جائزة؛ كما قاله الولي العراقي).
وأخيرًا من باب الوعظ أقول: إن الخطر الذي يهدد الأمة من خلال التحلل من أحكام الشريعة، يقابله خطر آخر يتمثل في تلك النظرة الظاهرية في تفسير كثير من معاملات الناس، ما يؤدي إلى هجرة البعض إلى رحابة العلمانية الدينية، التي يقابلها التفسير الكهنوتي لهذه المعاملات. كل هذا مع غياب البديل الظاهري أيضا لهذه المعاملات.
فهذا يمنع تسليم المال المحول عن طريق شركات التحويل لغياب التقابض!
وهذا يمنع المطاعم ذات المائدة المفتوحة لقيام الغرر!
وهذا يمنع الإيجار المؤدي للتمليك لأنه ينطوي على بيعين في عقد!
وهذا يمنع شراء الذهب بكروت الائتمان!
وهكذا .. ما يوقف كثيرًا من أبواب التجارة وتداول المال.
المفتي: د خالد نصر