(ف42) تحاورت مع رجل مسلم يشكك في بعض روايات البخاري، بحجة أن النص الأصلي لم يعد له وجود قائلا بأن أقدم نسخة ترجع إلى 300 سنة بعد موت البخاري، أفزعني هذا المنطق وقلت له: إن البخاري نسخ عنه معاصرون وتلاميذ كثيرون ونشروا نسخ الكتاب في الأقطار والأمصار، لكنه عاد يشكك في دقة الناقلين… إلخ. أعلم أن هذا التفكير خطير جدا وهدفه تقويض السنة الشريفة، تمهيدا للانقضاض على كتاب الله الحكيم، فكيف تردون على مثل هذ الفكر الخبيث. أفيدونا بارك الله لنا فيكم ونفعنا بعلمكم.

أولا: إن مسألة إثبات الكتب التراثية بالاعتماد على نسخة المؤلف الأصلية وأن ما عدا ذلك يشكك فيه، أقول: هذا الكلام يطعن في أكثر كتب التراث الإسلامية وغير الإسلامية. وهذا إن وقع من مستشرق أو متشيع فنحن نلزمهم نفس المذهب تجاه ما يعتبرونه صحيحا من كتب التراث الإنساني؛ إذ أين هي النسخ الأصلية من تعاليم الإغريق والرومان وأكثر الفلاسفة؟!
ثانيا: مسألة الطعن في “صحيح البخاري” كتابا ومنهجا وروايات كانت وما زالت عمل جمع من أعداء هذه الأمة وبعض جهلة منتسبيها، ويعتقدون أن هذا سيقوض نظام الرواية وهذا جهل كبير.
ثالثا: لقد روى “صحيح البخاري” من تلاميذ الإمام البخاري المئات والمئات وعنهم الآلاف بما لم يقع لكتاب حديث آخر، وكانت طريقتهم في الرواية تعتمد على الحفظ وعلى القراءة من النص المكتوب وقد نشر المستشرق منجانا في كمبردج عام 1936م، أقدم نسخة خطية وقف عليها حتى وقته، وقد كتبت عام 370هـ، برواية المروزي عن الفربري تلميذ البخاري، فإذا علمنا أن البخاري رحمه الله توفي سنة ٢٥٦هـ ثبت أن النسخة كان بينها وبين البخاري حوالي مائة عام وليس كما يُزعم، مع العلم أن المروزي نقلها من الفربري الذي كان لديه نسخته. وهناك نسخة الحافظ أبي علي الصدفي (ت 514هـ) التي كتبها من نسخة بخط محمد بن علي بن محمود، مقروءة على أبي ذر رحمه الله، وعليها خطه، وقد كانت عند العلامة الطاهر بن عاشور علامة تونس والإسلام استعارها من مكتبة طبرق في ليبيا.
رابعا: إن فقدان النسخ المكتوبة لا يعني عدم كتابتها، وهذه هي إحدى مصائب الاستشراق، لا بد أن نفرق بين التدوين وبين وجود المدون؛ أما التدوين فقد تواترت الأنباء بوقوعه، وأما وجود المدون فمسألة أخرى تخضع لأمور:
– إذا علمنا كم من الحروب مرت منذ موت المؤلف.
– إذا علمنا كم من المدن والمكتبات هدمت وحرقت.
– إذا علمنا كم من الكتب فقدت.
– إذا علمنا صعوبة طبع نسخ كثيرة مع صعوبة الاحتفاظ بها في كل حال.
– إذا علمنا كل هذا فلا بد أن نتوقع غياب بعض النسخ، ومع ذلك فهذا لا ينفي وجودها.
خامسا: الأصل في رواية القرآن والسنة من البداية هو الرواية الشفوية، وهذه طبيعة في العلوم العربية لا يقدرها المستشرقون والمشككون، فالبخاري نفسه لم يجمع كل أحاديثه من مصادر مكتوبة، بل بعضها كان مكتوبا وبعضها كان مشافهة. فهل نرتد أيضا على البخاري ونقول له: أين كتبك التي نقلت عنها؟ وهو الذي يقول (حدثنا) و(أخبرنا). وعليه فغياب النص المكتوب لا يطعن في المروي إن حصل له نقل الجمع عن الجمع. وإذا كان البخاري نفسه قد ألف كتابه من عشرات الآلاف من الأحاديث ومن حفظه فلا يصعب على من بعده حفظ بضعة آلاف منها قريب من النصف مكرر.
سادسا: لقد شرح صحيح البخاري عدد كبير من الأئمة وهناك قريب من ٤٠٠ مؤلف تناولت صحيح البخاري بالشرح أو التعليق أو الدراسة. أقول: تتبع هؤلاء الأئمة من أمثال ابن رجب وابن حجر والقسطلاني والعيني وغيرهم روايات الكتاب ونبهوا على ما اختلفت فيه بعض النسخ وهو إذ يقاس بحجم الكتاب فهو قليل. وبالجملة أقول: إن فقدان نسخة المؤلف لا يعني عدم وجودها، كما أننا لسنا بحاجة لإلصاق الصحيح بالبخاري خاصة، إذ إن البخاري اكتسب شهرته من تأليف الصحيح وليس العكس.
وقد نستوعب جدل المجادل إذا كان للبخاري مؤلفات تضاهي الصحيح أو تفوقه فيلحق به اللاحق اسم الكتاب ليبلغ به الشهرة، أما إذا كان الحال أن البخاري لم يترك مؤلفات كثيرة ولا مشهورة شهرة الصحيح اللهم إلا كتابيه “الأدب المفرد” و”التاريخ الكبير” ومع ذلك فليس لهما شهرة الصحيح وقبوله.
والسؤال: إذا كان صحيح البخاري منتحلا فلماذا لم ينسبه المنتحل لنفسه أو للإمام أحمد وهو سابق للبخاري أو لعلي بن المديني وهو أحد شيوخ البخاري ومشهور في علم الجرح والتعديل أو للفضل بن دكين أو لغيرهم؟ لماذا البخاري؟ إلا أن يكون الكتاب له.
المفتي: د خالد نصر