(ف45) السلام عليكم ورحمة الله، سؤالي عن تربية الكلب في المنزل، هل هي حرام؟ وإن لم يكن حراما ما الشروط؟

أقول ومن الله المدد:
أولا: ورد ذكر الكلب في القرآن في سورتين باسمه وفي سورة بالوصف، ففي سورة الأعراف شبه الله به حال العالم المضل؛ قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]. وفي سورة الكهف ورد ذكره عدة مرات، ومنها: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]. أما الموضع الثالث فورد في سورة المائدة وإن كان جاء وصفا لحال الصيد بالجوارح، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]. قال الطاهر بن عاشور: فـ(مكلبين) وصف مشتق من الاسم الجامد اشتق من اسم الكلب جريا على الغالب في صيد الجوارح، ولذلك فوقوعه حالا من ضمير (علمتم) ليس مخصصا للعموم الذي أفاده قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} فهذا العموم يشمل غير الكلاب من الفهود والبُزاة.
ثانيا: ورد ذكر الكلاب في السنة على موارد:
– منها ما يدل أن الكلب ليس فيه شيء، عن عبد الله بن عمر قال:«كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ فَتًى شَابًّا عَزَبًا، وَكَانَتِ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ». أخرجه أبو داود، وابن حبان، وابن خزيمة، ووصله البيهقي في «الكبرى».
– ومنها ما ورد في حكم النظافة، منها:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ في إِنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ». رواه مسلم، ولفظ البخاري: «إِذَا شَرِبَ الكَلْبُ في إِنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا». وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «طُهُورُ إِنَاءِ أحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ أنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ». رواه مسلم، وفي رواية لمسلم: «إِذَا وَلَغَ الكُلْبُ في الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ».
– ومنها ما ورد في قتل الكلاب وذلك ما رواه البخاري ومسلم عن نافع، عن عبد الله، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ فَنَنْبَعِثُ فِي الْمَدِينَةِ وَأَطْرَافِهَا فَلاَ نَدَعُ كَلْبًا إِلاَّ قَتَلْنَاهُ حَتَّى إِنَّا لَنَقْتُلُ كَلْبَ الْمُرَيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَتْبَعُهَا».
– ومنها ما ورد في احتياز الكلب والعذر في ذلك أخرج مسلم والطبراني في الكبير عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ».
– ومنها ما ورد في منع دخول ملائكة الرحمة ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي طلحة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ».
هذا مجمل ما ورد في السنة وهناك أحاديث أخرى أعرضنا عنها. ثانيا: طهارة الكلب ونجاسته اختلف الأئمة أهل المذاهب في ذلك اختلافا نستطيع أن نجعل له طرفين ووسط؛ فالطرفان هما القائلون بالنجاسة الكلية وهم الشافعية والحنابلة في رواية، والقائلون بالطهارة الكلية وهم المالكية والظاهرية. والوسط يقول: إن الكلب طاهر إلا لعابه فهو نجس. وهؤلاء يمثلهم الأحناف والرواية الأصح عند الحنابلة.
ثالثا: رأي الأئمة في ثمن الكلب ورد في هذا عدة أحاديث، منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.
وعليه فقد ذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز بيع الكلب ولا شراؤه مطلقا، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وغيرهم. على حين ذهب الأحناف إلى جواز بيع الكلب المأذون فيه للحراسة والرعي والزراعة وكذلك يجوز شراؤه.
رابعا: فتوانا في هذا: إن اقتناء الكلب لمصلحة غالبة جائز سواء كانت المصالح من التي ذكرت في الحديث أو ما يَجِدُّ مِنْ مَصَالِحَ كاستعمالها في تتبع المجرمين وفي قيادة الأعمى ولتنبيه الضيفان وغيرها مما يقاس على ما ذكر.
والأمر الثاني أننا نرى رأي المالكية ومن معهم في طهارة الكلب جملة، وذلك للآتي:
– الإذن بالصيد به، وهو يحتاج إلى العض واختلاط لعابه بالفريسة، ولا يؤذن بمحرم.
– حديث ابن عمر السابق حول مرور الكلاب في المسجد وعدم الغسل مما وطئت.
– روي عن أبي هريرة في سنن الدارقطني: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة, فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها, فقال: «لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ».
– روي عن أبي هريرة في صحيح البخاري: «أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ». فَلَو كان الكلب نجسا لما كان منه ثواب.
وعليه، فلا حرج في شراء الكلب وتربيته ولا نجاسة فيه وإن كان الأحوط غسل الإناء.
زيادة وتفصيل:
وقد طلب مني بعض الأحباب زيادة في التعليق على مسألة حل اقتناء الكلاب وذلك أني ذكرت أدلة الجواز ولم أوفِّ القول في الرد على أدلة المانعين.
‏وعليه أقول وبالله العون: اعتمد المانعون على بعض الأدلة التي ظنوا أنها تعني التحريم أو تقضي بالنجاسة، وأنا سأناقش هذه الأدلة مناقشة هادئة. الدليل الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إِلاَّ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ». وما رواه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ كَلْبَ زِرَاعَةٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ». والحديث رواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه، والحديث له روايات أخرى مروية عن الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم، وجاءت الروايات ‏عن جمع من الصحابة منهم أبو هريرة وأبو سلمة وعمرو بن دينار وأبو خازم. وعليه فالحديث صحيح من جهة السند والرواية ليس فقط لرواية البخاري ومسلم له ولكن لكثرة المتابعات، إلا أننا ‏نلاحظ أن ألفاظ الحديث لم تتفق واختلفت في أمور، منها:
١-اختلفت ألفاظ الحديث بين ألفاظ الاتخاذ والاقتناء والإمساك والربط، وهذه الألفاظ وإن كانت متقاربة في المعنى ويمكن أن يحمل بعضها على بعض ‏توسعا إلا أن لكل لفظ دلالة خاصة يمكن أن يحمل عليها. فلفظ (الاقتناء) فيه معنى القنية وهي تعطي في بعض مدلولها معنى الترف وشهوة الاحتياز والكنز والذي لا يكون له سبب أو داعٍ. ‏وكلمة (الربط) فيها معنى القيد مع ما فيه أحيانا من الإجاعة وعدم الرعاية والإهمال وهذا مستشعر أيضا في كلمة الإمساك.
٢- اختلفت روايات الحديث في الأعذار التي يستثنى منها ‏نقصان العمل أو الأجر، فبعضها ذكر عذرين وبعضها جعلها ثلاثة أعذار، فمن ذكر عذرين جعلهما الحرث أو الصيد، والصيد أو الرعي، ومن ذكر ثلاثة أعذار جعلها الصيد أو الزرع أو الرعي. فهل ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بجهات مختلفة متنوعة ‏أم إنه مورد واحد والاختلاف جاء من الرواة على حسب حفظهم، فمنهم من ذكره كاملا ومنهم من اقتصر على البعض.
٣- اختلفت الروايات أيضا في نوعية المنقوص هل هو العمل أو الأجر، واللفظان يختلفان في الدلالة بلا شك، كما أن الروايات لم توضح هل النقص يقع في العمل أو الأجر السابق أم يقع ‏فيما سيكون.
٤- اختلفت الروايات أيضا في القدر المنقوص، فعلى حين جاءت أكثر الروايات على ذكر القيراطين ذكرت بعضها قيراطا واحدا، كما أن لفظ القيراط مجمل لا يعلم قدره من النص، فهل هو مثل القيراط المذكور في صلاة الجنازة ‏أم هو قيراط آخر.
كذلك من غير الواضح في الحديث هل الكلب المذكور هنا يقع على الجنس أم على الفرد، فإن وقع على الفرد الواحد هل يتعدد النقصان بتعدد الاحتياز بمعنى أن من لديه عدة كلاب أو عائلة من الكلاب يحتاجها لغير الأعذار المذكورة هل ينقص عمله أو أجره بعددها أم أنه ينقص من أجره مرة على الكل.
وكذلك من غير الواضح في نصوص الأحاديث هل يقع النقصان بمجرد الاحتياز أو لغياب سبب الاحتياز بمعنى أنه من اشترى كلبا بنية الصيد ولكنه لم يخرج للصيد أبدا لانشغاله أو لمرضه أو لغير ذلك هل تكفي هنا النية أم لا بد من المباشرة للفعل؟
هذه بعض الأمور التي لاحظناها في رواية الحديث المشار إليه، وقد فطن بعض الأئمة من شراح الحديث كابن حجر والنووي إلى بعضها فحاول الإجابة عليها وسكتوا عن البعض الآخر.
وأنا أوردت هذه الأمور ‏لأدلل على أن الحديث وإن كان مباشرا إلى أنه ليس قطعيا في الدلالة على الحرمة ولا يصلح وحده أن يكون دليلا. وأكثر ما يقال فيه أنه يستأنس به على ما سنبينه إن شاء الله.
أولا: هل نقصان العمل أو الأجر يعني الحرمة؟ هذه مسألة مهمة ‏لا بد أن ننشغل بها ولننظر ما ورد في نظائرها مما نلمح فيه نقصان الأجر ثم لنر هل نفهم منه معنى الحرمة؟
– روى البخاري ‏بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ». وفي رواية لمسلم «فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوَوُا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ». ‏فهذا الحديث يدل على تفاوت أجور الحاضرين للجمعة بالزيادة والنقصان، فمن بكر أولا حاز الأجر الأكبر، ومن تأخر عنه نقص أجره عن الأول، ومن تأخر عنهما نقص أجره، ولا يزال الأجر ‏في نقصان حتى يفنى أجر التبكير ولا يبقى لعموم الناس شيء من الفضل. فهل نفهم من هذا الحديث أن القدوم ثانيا محرم أو مكروه لنقصان الأجر عن الأول؟ وهل نفهم منه أن من ‏لم يحز ولو أجر بيضة من عموم الناس آثم لعدم التبكير مع أدائهم الجمعة؟
– روى البخاري ومسلم -والرواية له- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ». قيل: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ». قال سالم بن عبد الله: وكان ابن عمر يصلي عليها ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة قال: لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كَثِيرَةً. وموطن الاستدلال هنا: أن من لم يحضر الصلاة ولا الجنازة أصلا نقص قيراطين وأن من اقتصر على الصلاة دون الدفن نقص قيراطا. فهل يقول قائل: إن من لم يحضر الصلاة ولا الدفن آثم أو يكره منه ذلك؟ وهل يقال الشيء نفسه فيمن نقص بالصلاة فقط؟
– روى مسلم وأصحاب السنن: « مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ». وهذا الحديث يدل على أن تمام أجر قيام الليل يحصل بالصلاتين، وأن من فاته أحدهما نقص أجره، ومن فاته كلاهما زال أجر قيام الليل، فهل يقال: إن من لم يصل في جماعة آثم مع احتمال قيام العذر؟ وهل النقصان هنا يحتمل كراهة أو تحريم المنقص. وعليه، فالاعتماد على مسألة نقصان الأجر أو العمل لا يصلح دليلا بانفراده، ولا يدل على حرمة أو كراهة، والأصل أن من ترك السنن نقص أجره، ولا نقول آثم، ومن ترك المندوب نقص أجره، ولا نقول آثم.
ثانيا: هل النقصان المذكور يقع بمجرد اقتناء الكلب لغير الأعذار المذكورة في الروايات، أم يقع لأسباب أخرى؟ وأنا هنا سأنقل نصا للإمام ابن عبد البر: (ووجه قوله عليه السلام في هذا الحديث من نقصان الأجر محمول عندي والله أعلم على المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا إذا ولغت فيه، ولا يكاد يقام بها ولا يكاد يتحفظ منها لأن متخذها لا يسلم من ولوغها في إنائه… فيدخل عليه الإثم والعصيان فيكون ذلك نقصا في أجره…. وقد يكون ذلك -أي النقصان- بذهاب أجره في إحسانه إلى الكلاب لأنه معلوم أن في الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة أجرًا). هذا الذي ذكره ابن عبد البر محتمل في تعليل النقصان لا بمجرد الاقتناء، ومثله أيضا أن يكون النقصان بسبب أن الكلب يمكن أن يؤذي الناس بنباحه أو عضه أو بترويعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الترويع. على حين أن الكلب المعلم للصيد أو الزراعة أو الرعي يأنس بالناس وليس فيه هذا المعنى، فدلنا النبي إلى هذا الاحتمال للاحتراز، وهذا يعني أيضا أن النقصان لا يكون بمطلق الاحتياز وإنما بفعل مؤثر في الحكم، وهذا يختلف عن ذاك.
ثالثا: وردت الأعذار المبيحة كالآتي: الصيد والرعي والزراعة: والسؤال: هل هذه الأشياء مقصودة لذاتها أم أن النبي مثَّل بها ليقاس عليها حوائج الناس مع قيام الحاجة ووقوع العلة؟ إن من ينظر إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم في النظائر يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أشياء لا لأعيانها وإنما للتمثيل مع احتمال القياس عليها إن قامت الحاجة، وأنا سأعطي مثالين فقط:
الأول: تحريم الأصناف الستة في ربا الفضل وهي: الذهب والفضة والتمر والملح والبر والشعير، فهل هذه الأشياء الواردة في الحديث مقصودة لذاتها لا نتعداها أم لشهرتها في ذلك الزمان استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلا هل يجوز التفاضل في الحديد والنحاس والياقوت واللؤلؤ والبلاتنيوم وهو أغلى من الذهب؟ ذهب جمهور العلماء من المذاهب الأربعة إلى قياس كل ذلك على الأصناف المذكورة وأن ربا الفضل يدخل غير المذكور قياسا مع أن لفظ الحديث لم يذكر غير الستة.
الثاني: صدقة الفطر فرضها النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط، فهل يمكن أن نقيس فنخرجها ذرة أو قمحا أو أرزا أو فاكهة على غالب طعام الناس مما لم يذكر في الحديث؟ قال جمهور العلماء بالقياس عليها، قال ابن القيم في “إعلام الموقعين”: (فإذا كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان، وهذا قول جمهور العلماء، وهذا هو الصواب الذي لا يقال بغيره).
وعليه، فإذا جاز القياس على ما ورد به النص محددا لقيام العلة في غيره فما يمنع من التوسع هنا في القياس على الأعذار المذكورة في الأحاديث، قال النووي في “شرح مسلم”: (اختلف في جواز اقتنائه لغير هذه الأمور الثلاثة كحفظ الدور والدروب، والراجح جوازه قياسا على الثلاثة عملا بالعلة المفهومة من الحديث وهي الحاجة). وقال ابن عبد البر في “التمهيد”: (عندي أن إباحة اقتناء الكلاب للمنافع كلها ودفع المضار إذا احتاج الإنسان إلى ذلك). وقال ابن حجر: (والأصح عند الشافعية إباحة اتخاذ الكلاب لحفظ الدروب وإلحاقا بالمنصوص بما في معناه). وعليه، فلا يمتنع اقتناء الكلب لقيادة الأعمى في الطريق، ولا يمتنع اقتناؤه للتعرف على المجرمين والمهربات لأعمال الشرطة، ولا يمتنع اقتناؤه لامرأة أو رجل عجوز تركه أولاده وحيدا في البيت لا يجد من يكلمه أو يسايره غير كلبه، ولا يجد من يؤنسه في ليله، ولا يمتنع استعمالها في حرب الأعداء كما فعل الروس مع الألمان في الحرب الثانية. فهذه الأشياء وغيرها مما له سبب يمكن أن تقاس على ما ورد. هذا ما يخص الدليل الأول وهو نقصان العمل أو الأجر. الدليل الثاني: اعتمد المحرمون على ما ورد في السنة من أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، وسأذكر تفصيل هذه الدعوى من جهتين:
أولا: من جهة الرواية وردت عدة روايات في الصحاح تقول أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ومنها:
– ما رواه البخاري بسنده عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: «وَعَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ فَرَاثَ عَلَيْهِ [أي: أبطأ] حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا وَجَدَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلاَ كَلْبٌ». وفي رواية مسلم: «وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ فَلَمْ تَأْتِ. فَقَالَ: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ».
– ما رواه أحمد بسنده من حديث أبي طلحة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ».
– ما رواه ابن ماجه بسنده عن علي بن أبي طالب عن النبي قال: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ».
هذه بعض روايات الحديث، ويمكن أن نفهم من ظاهرها الآتي:
١- أن بعض الروايات خصت جِبْرِيلَ من الملائكة.
٢- أن البعض الآخر عمَّ في كل من تسمى بهذا الاسم.
ثانيا: من جهة فقه الحديث أقول:
1- إن مسألة عدم دخول الملائكة لبيت من البيوت أو امتناعها من مصاحبة ركب وردت في السنة بسياقات متنوعة، منها:
– ما أورده النسائي بسنده عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ». وهذا الحديث وإن ضعفه البعض فقد حسنه آخرون، وله متابعات تحسنه، والزيادة هنا ذكر الجنابة.
– ما رواه أبو دَاوُدَ بسنده عن عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله قال: ثَلَاثَةٌ لَا تَقْرَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ جِيفَةُ الْكَافِرِ وَالْمُتَضَمِّخُ بِالْخَلُوقِ -نوع من الطيب الأصفر أو الأحمر- وَالْجُنُبُ إِلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ».
وهذه الرواية ذكرت جثة من مات على الكفر وكذلك التطيب بالخلوق.
– ما رواه مسلم بسنده من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: «لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلاَ جَرَسٌ». فهذه الرواية ذكرت الجرس وهو ما يعلق في رقبة البعير ويحدث صوتا.
– ومنها ما رواه عبد الرزاق في “المصنف” عن عائشة أن جارية دخلت على عائشة وفي رجلها جلاجل في الخلخال، فقالت: «أخرجوا عني مفرِّقة الملائكة». والحديث له شواهد عند الطبراني.
– ومنه ما رواه الطبراني في “الأوسط” عن عبد الله بن يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يُنْقَعُ بَوْلٌ فِي طَسْتٍ فِي الْبَيْتِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ بَوْلٌ مُنْقَعٌ، وَلَا تَبُولَنَّ فِي مُغْتَسَلٍ». فهذه الرواية ذكرت البول -أرجو المسامحة- وهذا يعني أن الملائكة لا تدخل أماكن التبول كالحمامات والمباول.
إذن: نحن أمام عدة أسباب تمنع الملائكة من الدخول:
– الصور – الكلاب – الجنابة – جثة الكفار – الخلوق – صوت الجرس والجلاجل – البول.
والسؤال هنا: هل هذه الروايات تتفق مع ما ثبت في السنة الصحيحة مما يبيح فعل بعض ما سبق ذكره مانعا من دخول الملائكة؛ فمثلا إذا أخذنا الجنابة، هل يمكن أن يبقى النبي صلى الله عليه وسلم جنبا مع علمه بامتناع الملائكة من الدخول مما يجعل المكث جنبا محرما؟ والجنابة تكون لسببين:
– الاحتلام وما في معناه.
– والجماع سواء من الرجل أو المرأة.
روى الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه عن عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ الْمَاءَ».
– روى مسلم من حديث أم سلمة: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنْ حُلُمٍ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَقْضِي». وفي رواية الشيخين: «فِي رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ».
فهذه جملة من الأحاديث تدل بلفظها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا لا يسارع إلى الاغتسال من الجنابة، فهل نستطيع أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتكب محرما لأن مكثه دون اغتسال منع الملائكة من الدخول؟ هل يصح هذا في العقول؟ وهل يأثم الإنسان بتأخير الاغتسال ما لم يضيع صلاة فقط لأن الملائكة لا تدخل بيته؟
إذن: ماذا نقول في حنظلة المسمى غسيل الملائكة؟ وقصته مشهورة أنه لبى داعي الجهاد دون أن يغتسل من الجماع وكان زوجا جديدا فغسلته الملائكة بعد استشهاده. فلماذا لم تتجنبه الملائكة؟
2- ما يقال في الجنابة يقال أيضا في الكلب وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للناس في اقتناء الكلاب إذا كان هناك سبب من زرع أو صيد أو رعي، وقد قسنا عليها غيرها، فهل يعقل أن يجيز النبي صلى الله عليه وسلم لنا احتياز الكلب ويمنعنا من اتخاذ أسباب الاحتياز من ناحية أخرى فيصير أنه أجاز لنا الاحتياز ثم يرده بامتناع الملائكة من الدخول؟ وهذا مثله كمن يقول: عليك بالجهاد، ولكن لا يجوز لك شراء السيف. ورب قائل يقول: إن حديث امتناع دخول الملائكة عام خُصِّص بحديث جواز احتياز الكلب لأسباب. نقول: نعم، هذا فهم معتبر، وهو ما ذهب إليه الإمام الخطابي حين قال: (وإنما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه). ومع ذلك نقول: إن التخصيص لا يجب أن يقتصر على الأسباب المذكورة في الحديث إذ أثبتنا فيما سبق أنها للتمثيل أو أنها للحصر الإضافي لا الحقيقي.
3- هذا الحديث لا يمكن حمله على العموم إذ العموم يتعارض مع الثابت المستقر، بمعنى أن كلمة (الملائكة) لا يمكن أن تشمل كل الملائكة، بل يجب أن تستثني أنواعا؛ لأننا نعلم أن كل إنسان له ملكان يكتبان حسناته وسيئاته ولا يفارقانه أبدا، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 9-11]. وقال: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]. قال ابن عباس: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وفي “التسهيل لعلوم التنزيل” لابن جزي: (ومعناه عند الجمهور: أن كل نفس من بني آدم عليها حافظ يكتب أعمالها، يعني: الملائكة الحفظة). فهل يعقل أن نقول: إن الملائكة الكتبة لا يدخلون البيت لأن فيه كلبا. وهل يعقل أن ملك الموت مثلا يمتنع لأن البيت فيه كلب؟ إذن: لاحتال الناس على الموت بالكلاب !!! وعليه فالملائكة المذكورة في الحديث لا يمكن أن تشمل عموم الملائكة، وإنما هي نوع خاص، وقد اختلف العلماء في تحديده: فذكر ابن حبان أنه ملك الوحي، واستدل بالروايات التي تتكلم عن جِبْرِيلَ، ويكون المعنى أن الوحي يمتنع نزوله على النبي في حضرة الكلب تنزيها للوحي عن هذا الحيوان، ويلحق بهذا الأشياء الأخرى كالجنابة وأصوات الأجراس والأبوال فكل منها يمنع نزول الوحي. أو يكون الملائكة المقصودة هي ملائكة البركة والرحمة دون غيرها من الملائكة كما ذهب الجمهور. لكن يبقى الأمر الظاهر أن العموم غير مقصود.
4- ورابع ما أذكره تعليقا على الحديث أن امتناع دخول الملائكة لا يعني حرمة السبب وهو اقتناء الكلب كما يظن البعض، وذلك أن الملائكة مخلوقات خاصة تتأذى من بعض الأشياء تنزيها وليس حرمة، والدليل على ذلك:
– ما رواه النسائي في الكبرى والطبراني وأكثر ألفاظه عند البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي أنه قال: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ». فهل نقول: إن أكل البصل حرام؛ لأن الملائكة تتأذى منه؟ ولعل واحدا يقول ذلك، وأنا أرد عليه بحديث مسلم أن النبي قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا».
فهذا هو النبي الأعظم الذي هو من أجل الملائكة يكره شيئا ولكنه لا يصير حراما لمجرد الكراهية. فكيف لنا نحرم لمجرد تأذي بعض الملائكة؟! والسؤال لمن يقول بالحرمة استدلالا بالحديث: هل يجوز لنا نحن أن ندخل بيتا فيه كلب أو صورة؟ لقد أجاب ابن قدامة عن ذلك حين قال: (وروى ابن عائذ في “فتوح الشام”، أن النصارى صنعوا لعمر رضي الله عنه حين قدم الشام طعاما، فدعوه، فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة، فأبى أن يذهب، وقال لعلي: امض بالناس، فليتغدوا. فذهب علي رضي الله عنه بالناس، فدخل الكنيسة، وتغدى هو والمسلمون، وجعل علي ينظر إلى الصور، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل. وهذا اتفاق منهم على إباحة دخولها وفيها الصور، ولأن دخول الكنائس والبيع غير محرم، فكذلك المنازل التي فيها الصور، وكون الملائكة لا تدخله لا يوجب تحريم دخوله علينا، كما لو كان فيه كلب، ولا يحرم علينا صحبة رفقة فيها جرس، مع أن الملائكة لا تصحبهم، وإنما أبيح ترك الدعوة من أجله عقوبة لفاعله، وزجرا له عن فعله، والله أعلم). انتهى كلام ابن قدامة من “المغني” ولا يحتاج إلى تعليق.
٥- إن الملائكة لها أفعال خاصة، ونحن لسنا مأمورين بتقليدها، فهي لا تأكل ولا تشرب ولا تتزوج ولا تعصي، وليس لها إلا الطاعة، وعليه فلا يمكن القياس عليها ممن يقع منه كل ذلك.
٦- إن علة عدم دخول الملائكة بيتا فيه كلب ليس لذات الكلب فالكلاب في كل مكان وكذلك الملائكة، وإنما العلة كما قال النووي فيما قد يلحق الكلب من النجاسة وسوء الرائحة والتصاق الحشرات وغيرها.
وعليه فأقول:
١- إن الحديث لا يمكن أن يعم كل الكلاب؛ لأن بعضها مأذون، ولن يأذن النبي في محرم.
٢- إن لفظ الملائكة في الحديث لا يشمل كل الملائكة قطعا.
٣- إن كراهية الملائكة للشيء أو امتناعها عنه لا تعني حرمة هذا الشيء.
٤- إننا لسنا متعبدين بأفعال الملائكة إذ هي فوق الطاقة ولسنا مأمورين لتقليدهم في أمورهم.
٥- إن علة امتناع الملائكة من الدخول محتملة وليس منها ذات الكلب إذ هو في كل مكان.
٦- إن الملائكة امتنعت لأسباب أخرى غير الكلب ومع ذلك لا نقول نحن بحرمتها. وبالجملة فإن هذا الحديث أيضا لا يصلح أن يكون دليلا على الحرمة.
الدليل الثالث الذي استدل به المانعون من الاقتناء: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، وقالوا: لو لم تكن محرمة لما استباح قتلها.
وأنا أودُّ أن أعلق بنفس الطريقة:
أولا: من جهة الرواية ورد الأمر بقتل الكلاب في غير ما حديث، منها:
– ما رواه مسلم بسنده عن مالك عن نافع عن ابن عمر «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ».
– وفي رواية: «أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، فَأَرْسَلَ فِي أَقْطَارِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُقْتَلَ».
– وفي رواية: «أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ فَنَنْبَعِثُ فِي الْمَدِينَةِ وَأَطْرَافِهَا فَلاَ نَدَعُ كَلْبًا إِلاَّ قَتَلْنَاهُ حَتَّى إِنَّا لَنَقْتُلُ كَلْبَ الْمُرَيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَتْبَعُهَا».
– وفي رواية: «أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِنَّ لأَبِى هُرَيْرَةَ زَرْعًا».
– وفي رواية جابر: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ».
– وفي رواية عبد الله بن مغفل قال: « أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلاَبِ؟! ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ».
– وفي رواية له: «فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ».
إذن: فالروايات الصحيحة تصرح بالآتي:
١- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، وهذا عام في كل كلب.
٢- أنه استثنى من القتل كلب الصيد والزرع والرعي في مرحلة ما.
٣- أنه في مرحلة أخرى استثنى كل الكلاب إلا الكلب الأسود البهيم لأن الشيطان يتشبه فيه.
٤- أنه في مرحلة نهاهم عن قتل الكلاب وقال: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟!» أي: ما بالهم توسعوا في قتلها. ثانيا: من جهة فقه الحديث إن المتأمل في هذه الروايات يجد أن قتل الكلاب لم يكن لسبب أنه يحرم اقتناؤها؛ وذلك لأن النبي أمر بالقتل لعلة فلما زالت منعهم من القتل إلا الكلب العقور في حديث: « خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ ». فَلَو كان القتل للحرمة لما منعهم النبي صلى الله عليه وسلم من التمادي في القتل.
وفي الحديث الذي رواه أبو دَاوُدَ وغيره من حديث الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا فَاقْتُلُوا مِنْهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ». فالكلاب هي خلق من خلق الله كبقية الحيوان لا ينبغي إفراغ الأرض منها.
ثالثا: قال النووي في شرح مسلم: (اختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه، فقال إمام الحرمين من أصحابنا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولا بقتلها كلها، ثم نسخ ذلك، ونهى عن قتلها إلا الأسود البهيم، ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها سواء الأسود وغيره، ويستدل لما ذكره بحديث ابن المغفل).
وهذا الذي ذهب إليه النووي وجه أن النبي نسخ أمره الأول بأمره الثاني وأن الأمر استقر على ذلك. والذي يمثل هنا ألا نقول بالنسخ وإنما نقول بالاجتهاد فالنبي صلى الله عليه وسلم اجتهد في الأمر رعاية لمصلحة الناس التي استعدت قتل الكلاب لأسباب يمكن أن يكون منها كثرة الكلاب في المدينة أو كثرة تعديها على الناس أو اختلاط الكلب العقور بغيره ما استدعى التعميم. فالقتل كان اجتهادا من الحاكم لعلة، فلما ارتفعت العلة رفعه النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا المسلك أولى من القول بالنسخ لأنه يفتح باب الاجتهاد حين يُوجِدُ السبب مرة أخرى، فَلَو كثرت الكلاب كثرة فاحشة وهي المعروفة بالتناسل والتوالد فلا يمنع من قتلها والحد منها. ولو صارت الكلاب خطرا وانتشر فيها العقور جاز قتلها دفعا للضرر وتقديما لحياة الإنسان، وقد ذكر القاضي عياض اختلاف الأئمة في المسألة بين النسخ وأنواعه فقال القاضي عياض: (ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب إلا ما استثنى من كلب الصيد وغيره. قال: وهذا مذهب مالك وأصحابه. قال: واختلف القائلون بهذا هل كلب الصيد ونحوه منسوخ من العموم الأول في الحكم بقتل الكلاب وأن القتل كان عاما في الجميع أم كان مخصوصا بما سوى ذلك؟ قال: وذهب آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها، ونسخ الأمر بقتلها، والنهي عن اقتنائها إلا الأسود البهيم).
وعليه فأقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب سواء كان اجتهادا أو حكما منسوخا لا يدل على حرمة اقتنائها مع وجود النصوص المبيحة، وأكثر ما يدل عليه كراهة كثرة الكلاب وانتشارها وهذا ما نميل إليه.
وأخيرا في نهاية هذه الفتوى الطويلة أودّ أن أذكر هذا الحديث: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لِي: أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي الْبَيْتِ يُقْطَعُ فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ تُوطَآنِ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا الْكَلْبُ لِحَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ كَانَ تَحْتَ نَضَدٍ». رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي، قال الشوكاني في “نيل الأوطار”: (قوله: وَكَانَ لِحَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ. فيه جواز تربية جرو الكلب للولد الصغير).
وأنا بالجملة أقول:
١- إن الأدلة التي ساقها المحرمون في تقديري لا تصلح دليلا على دعوى التحريم، وإنها منفردة أو مجتمعة لا يمكن أن تحمل على أكثر من الكراهة.
٢- إن الأدلة متوافرة على جواز اقتناء الكلب لمصلحة وحاجة وهذه الحاجات تختلف باختلاف الزمان والمكان.
٣- إن القياس على الأعذار المذكورة في الروايات الصحيحة وهي الزرع والرعي والصيد جائز وقال به جمع من العلماء على تباين بينهم في التوسع والتضييق.
٤- إن الأدلة التي تذهب إلى طهارة الكلب جسدا أدلة قوية وهي متوافقة مع ما ورد من كثرة استعمال الكلاب في تاريخ الإسلام وبحضور الأئمة والعلماء.
٥- إننا لو لم نقل بنسخ حديث جرو الحسن والحسين لصار دليلا على جواز اقتناء الكلب الصغير وما في معناه للصغار دون الحاجة لعذر من الأعذار المذكورة.
٦- إن هذا الأمر مما يسع فيه الخلاف، ولا نص قطعي فيه بحيث يصير المخالف ملوما على مفارقة الصحيح.
٧- إن التراث العربي والإسلامي تعامل بتسامح شديد في مسألة الكلب، وهناك من تسمى بهذا الاسم كبني كلب وبني كلاب. وإن حضور الكلب في الشعر العربي لا يخطئه القارئ والمتابع، فهل يقع هذا مع محرم نجس؟!!! هذا والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر