(ف87) ما رأي سيادتكم في العملات الرقمية، فكما وصلني عن البيتكوين لا تتوفر فيها أركان العملات ولا شروط النقود؟

الموضوع يحتاج إلى تفصيل طويل وسأحاول أن أختصره:
– هل البيتكوين عملة حقيقية؟
من ينظر إلى طبيعة ونشأة البيتكوين يجد أنها حتى الآن لا تصلح أن تكون نقودًا لفقدانها شرط النقدية، وهو الرواج، والضمان، فالدرهم عملة فضية مضمون بوزنه وعياره، والدينار عملة ذهبية مضمونة بوزنها وعيارها، والأوراق المالية مضمونة بالبنوك المركزية التي تصدرها بقدر الأصول الموجودة، سواء كانت أصولًا حقيقية أو معتبرة، كما أن هذه العملات لها رواج في المجتمع المحلي الذي تصدر فيه، وقد تتعداه إلى غيره كالعملات القوية.
– أما البيتكوين فهي نتاج عملية أرقام وحروف وأكواد وخطوات رياضية، وليس لها وجود ملموس أو قيمة محددة وزنًا أو نوعًا.
– هذا من جهة الطبيعة، أما من جهة الاستعمال، فهي لا تستعمل إلا في نطاق ضيق، ولم تحز على شرط من شروط النقود وهو الرواج ، فهي في أول أمرها ولا توجد دول أو هيئات دولية تعترف بها.
– كما أنها تحتوي على نسبة مخاطرة عالية لعدم انضباط سعرها، ولأنه يخضع لمزاج الأفراد وليس متطلبات سوقية حقيقية.
– كما أنها تحتاج في حفظها إلى تشفير عالٍ جدًّا وبرامج حماية، لا تتوافر لكثير من الناس، ولذا فالمخاطر فيها عالية.
– وثمة أمر آخر وهو أن هذه العملة حتى لا تصلح أن تكون جنسا من أجناس الأثمان الغالبة والتي يتعامل بها الناس.
فمثلا نستطيع أن نشتري سيارة وندفع ثمنها بالدولار أو اليورو على حسب القيمة المتداولة، ولكن هناك صعوبة في شراء سيارة بهذه العملة لأنها تتحرك على مدار الثانية، فلربما زادت أو نقصت في أثناء توقيع العقد فيقع ضرر على واحد من الطرفين.
– هل في الفقه القديم ما يعين في حكم هذا النوع من التعامل؟
قد يظن البعض الفقه القديم لم يعرض لهذه المسألة، وهذا صحيح إن كنا نتكلم على عين المسألة، ولكننا نجد إشارات في كتب المذاهب تتحدث عن أمور مشابهة ومنها مثلا حكم بيع (تراب الصاغة).
وتراب الصاغة هو ما يسقط من برادة ناتجة عن صناعة الذهب والفضة، والتي تختلط بغيرها مما في الحانوت مثل التراب.
وقد اختلف العلماء في حكمه:
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية ورأي عند الحنابلة وابن حزم إلى أنه لا يجوز شراء هذا النوع والاتجار فيه؛ لأن من شروط صحة البيع العلم بالمبيع، وتراب الصاغة ليس معلوما هل هو ذهب أو فضة أو خليط منهما ومن غيرهما.
وذهب الأحناف والحنابلة إلى أنه يجوز شراء تراب الصاغة وإن كانا مخلوطين بعروض وليس بثمن مماثل، فإن اشتراه بذهب أو فضة منع.
وهنا نجد أن العلماء منعوا هذا النوع من البيوع للجهالة والغرر، ولاحتمال الترابي، مع عدم الضمان، واحتمال ضياع المال، وكلها أمور محتملة في البيتكوين.
– هل يمكن اعتبار البيتكوين سلعة؟
من شروط السلعة أن تكون ملموسة ولها حيز وفائدة من احتيازها، وإذا نظرنا إلى البيتكوين، فليس فيها هذا المعنى، اللهم إلا في بابين:
الأول: وهو حقوق الملكية، وذلك عن طريق التعدين، والوصول إلى أكواد خاصة شديدة السرية ، فتشبه الـ copyrights .
وهذا النوع يباع ويشترى بين الناس، وقد كان سببا في كثير من الصناعات والمخترعات، إذ إن كثيرا منها كان عبارة عن معادلات رياضية، كنظرية النسبية وغيرها.
الثاني: العرف:
وذلك أن يتكون عرف بين الناس ويشيع، فيعطي البيتكوين قيمة مادية، وإن لم يكن لها صورة ملموسة.
ونحن نجد لذلك شبهًا في بعض الأبواب؛ منها مثلا التماثيل القديمة والأحجار المعمرة، فنجد أن تمثالا من ألفي سنة مثلا يباع بالآلاف، أو بالملايين مع كونه حجرا بالنهاية، ولا يتصور بيع الحجارة بهذه الصورة، إلا أن العرف أعطى قيمة للأشياء القديمة، وأخرجها عن الأصل الذي تمثله، إلى معنًى آخر يباع ويشترى ويقتنى.
وعليه: فالذي أراه في مسألة البيتكوين أن التجارة فيها بيعًا وشراء يمكن أن تعامل معاملة السلعة وليس معاملة العملة لفقدانها شرط النقد والرواج والضمان، ويكون الجواز مع الكراهة، لاحتمال ضياع المال في المجازفات وتغيراتها السريعة، ولكن لا تحرم لغياب النص المحرم.
هذا، والله أعلم
المفتي: د خالد نصر