(ف93) لو أخذ شخص مالًا كتعويض عن ضرر حدث من المستشفى الذي كان يعالج فيها.. هل يعتبر هذا المال حرامًا أم حلالًا؟

الضرر وهو الأذى الذي يقع على الشخص قد يكون أذى حسيًّا ، كالضرر البدني، وذلك كقطع عضو أو إتلافه ، وقد يكون معنويًّا كالضرر النفسي، وذلك كتهمة أو خوض في عرض أو إهانة في ملأ وما شاكل ذلك .
فأما النوع الأول فلا خلاف في جواز أخذ العوض عنه، قال تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]. وقال تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}[المائدة: 45]. ومن المعلوم أن ولي الحق قد ينتقل من العقوبة البدنية ويقبل العوض المادي ، فيقبل بالدية وهي نوع من التعويض.
وأما النوع الثاني : وهو الضرر المعنوي المتولد عن الإيذاء بأنواعه فهذا مما اختلف فيه أهل العلم :
١- فذهب البعض أنه لا يجوز العوض في المعنويات لأنه لم يرد في الشرع ومنه قوله تعالى في جريمة القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}[النور: 4]. قالوا: نص على العقوبة البدنية ولم ينص على عقوبة مادية.
والحق أن هذا الاستدلال ضعيف؛ لأن الآية نصت على العقوبة البدنية وسكتت عن العقوبة المادية ، ولكنها لم تمنعها ، فيجوز للقاضي أن ينظر فيما يترتب على الجرم ويحكم بعقوبة مادية، كمن اتهمت بالزنى، ولم تثبت عليها الجريمة، ولكنها انصرف عنها الأزواج ترتبا على التهمة ، فللقاضي أن يعاقب بكفالتها ، حتى تتزوج مثلا لأن الضرر تعدى مجرد التهمة.
ونظير ذلك في الشرع حد السرقة، فقد نصت الآية على القطع ولم تنص على رد المال، ومع ذلك فلا خلاف بين الفقهاء في وجوب رد المسروق إن كان قائما إلى من سرق منه، سواء كان السارق موسرًا أو معسرًا، وسواء أقيم عليه الحد أو لم يقم، وسواء وجد المسروق عنده أو عند غيره لما روي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم رد على صفوان رداءه وقطع سارقه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ»[رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه]. واستدلوا بقوله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}[النحل: 126]. والمثلية تقتضي المشابهة وهي في الحسيات مقبولة ، ولكنها في المعنويات قد تؤدي إلى الفحش ، كمن اتهم غيره بالزنى، لا يرد عليه بمثل الاتهام لأن فيه فحشًا ، وقد نهينا عن الفحش .
وهذا أيضا استدلال ضعيف؛ لأن المثلية لا تقتضي المشابهة من كل وجه ، بل يكفي المشابهة في بعض الصفات ودليلنا على ذلك :
– قوله تعالى: { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا}[النور: 17]. ولا يفهم منه ذات الفعل، بل النهي عن كل ما يتعلق به من مقدمات وخواتيم، والمعنى لا تأتوا بما يشبهه.
– قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للهِ بَنَى اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ» [متفق عليه]، ولا يُراد بها المثليَّة في الكمية والكيفية، فما في الجنة أكبر وأجمل وأعظم مما يبنيه الإنسان في الدنيا، وإنما هو مثله في كون كلٍّ منهما بناءً، وإلا تشابه فعل الله مع فعل خلقه وهو القائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11].
٢- ذهب بعض العلماء إلى جواز أخذ العوض على الإيذاء المعنوي واستدلوا بالآتي :
– جواز أخذ العوض في حالة الخلع لوقوع الضرر المعنوي ، وقد يقول قائل: بل بمقابل الضرر المادي الذي وقع عليه بما ترتب عليه من واجبات مادية .
نقول: يصح هذا إن قيل: فله أن يأخذ ما دفع ، ولكن النص جاء بالإطلاق: { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[البقرة: 229] وهذا يشمل ما دفع وأكثر مما دفع ، مما قد يعتبره تعويضًا نفسيًّا .
– عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وهذا حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مرفوعًا ، ورواه مالك في الموطأ مرسلا : عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضا. وقد صار قاعدة فقهية كلية، والضرر هنا عام يشمل المادي والمعنوي، ومن أراد أن يخصصه يلزمه دليل التخصيص.
– عن زاذان أبي عمر قال: أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكا قال: فأخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال ما فيه من الأجر ما يسوى هذا إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ».
فالعتق هنا بمقابل الضرر المعنوي، إذ الضرر المادي تكون عقوبته أن يمكن المضروب ممن ضربه لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}[الشورى: 40.] وإذا جعل النبي العقوبة أكبر من اللطم وهي الإعتاق عقوبة على الضرر المضاعف البدني والنفسي .
ولا شك أن الدليل ينصرف لجواز التعويض في الإيذاء المعنوي، ومرده لحكم القاضي أو المجلس العرفي المتحاكم إليه، بل فيه صلاح المجتمع لأنه به تهدأ النفوس ويقع التوازن، ويخاف الناس من جريرة الفعل . فمن وقع عليه ضرر بدني أو نفسي فله أن يطالب بالتعويض، ويكون التعويض بأنواعه حلالًا طيبًا.
والله أعلم.
المفتي: د خالد نصر