(ع11) لماذا قالوا: إن الدين لا يؤخذ بالعقل؟ ويؤكدون على أن الدين لو كان بالعقل لكان مسح باطن القدم أولى من ظاهره، من أجل أن تقبل رواية أن النبي رحمة الله للعالمين، امتنع عن الصلاة على صحابي لأنه مات وعليه دين، علما بأن النبي مات وعليه دين ليهودي كما يزعمون! وأن تقبل كذلك رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي امتنع عن الصلاة على الصحابي الذي مات وعليه دين في حين يستخرج النبي زعيم المنافقين من قبره، ويدعو له وينفخ بوجهه ويكفنه صلى الله عليه وسلم بثوبه، ومن ثم يسجيه بقبره، فأي مكرمة نالها زعيم المنافقين، في حين أن صحابيًّا مسكينًا مات فقيرًا مديونًا يمتنع نبي الرحمة من الصلاة عليه، حقًّا لا يمكن أن يتقبل العقل البشري كل هذه التناقضات إلا بحالة واحدة هي إذا تم إلغاء العقل تماما.

أقول وبالله العون والمنة:
أولًا: من قال إن الإسلام لا يؤخذ بالعقل ؟! لقد قدر الإسلام العقل بل ورفعه إلى أعلى الدرجات، حيث جعله مناط التكليف، وقد ذكر العقل وحمد في القرآن عشرات المرات: { يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 179] {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} ولما أراد ذم الكفار وصفهم بغياب العقل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان: 44].
وفي السنة نجد تميزًا للمكلفين بالعقل: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ المَجْنُونِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ النَّائِـمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ». والثلاثة المذكورة متعلقة بالعقل والإدراك .
ثانيًا: أن مذهب الأئمة المحققين أن صريح المعقول لا يجب أن يتناقض مع صحيح المنقول، وأن من ظهر عنده التناقض فلضعف دليله أو لقلة فهمه، وكذلك أن غايات الشريعة ومقاصدها لا تدرك إلا بالعقل السليم مع النقل الصحيح.
وإن العقل يحسّن ويقبح ولكن الثواب والعقاب مترتب على أحكام الشرع.
ثالثًا: ما أورده الكاتب من حديث النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة على المدين فهو عند البخاري، قال البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا»؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ»
والنبي عليه الصلاة والسلام ما ورد عنه أنه سأل في كل جنازة، وإنما في الحديث الآخر أنه سأل مرتين، وأنه أخبر بعدم وجود الدين فصلى وأخبر بوجود الدين فامتنع حتى دفع قتادة دين الميت، وللحديث وجوه:
– منها أنه علم أن الرجل عليه دين وهو مطالب به فأحب أن يقوم أحد بالسداد عنه. – أن هذا جاء من باب التعليم العملي وذلك بالتشديد على المدين لئلا يفرط في حق الدائن. – أنه قال: «صلوا على صاحبكم» ولم يمنع الصلاة عليه، ولذا قال العلماء: إن الإمام لا يصلي على أصحاب الكبائر زجرًا لهم، وذلك كمن انتحر مثلا يصلي عليه الناس دون الإمام.
رابعًا: أما صلاة النبي على ابن سلول فهو اجتهاد منه وقد صوبه القرآن ونهاه عن الصلاة كما هو الحال في سورة عبس، والحق أننا لا بد أن نفرق بين أحوال النبي المختلفة ؛ فهو لا يمثل صفة النبي الرسول طول الوقت، بل له أحوال ذكر منها القرافي المالكي ثمانية وأوصلها السيد الأجل الطاهر ابن عاشور لاثنتي عشرة حالة، وفي حال صلاته على ابن سلول كان يمثل القائد الذي لا يريد أن ينقص الخزرج حقًّا وابن سلول منهم، وكذلك صلة لابنه وقد كان صحابيًّا جليلًا، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبادر للصلاة أصالة بل جاءه آل ابن سلول وطلبوا منه وأخبروه بوصية هذا المنافق.
أخرج عبد الرزاق، عن معمر، والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: “أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال: «أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودَ»، فقال: يا رسول الله، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني! ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه.
وفِي رواية جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له. فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام قميصه، وقام ليصلِّي عليه، فلما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك أسرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين ؟ فقال له: «إني خُيّرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ».
وعليه ففي الحالتين تعليم:
أما المدين فلتغليظ الحرمة وإيجاب الوفاء، وأما المنافق فلاستصحاب حكم الظاهر لئلا يمتنع كل أحد عن الصلاة بغير بينة واضحة.
خامسًا: أما ما يتعلق بالمقارنة بين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وعليه دين وقد صُلِّي عليه، على حين أنه رفض الصلاة على من عليه دين، فالفرق أن النبي ترك درعه عند اليهودي في مقابل ثمن سلعته، ففي حديث البخاري عن عائشة: “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ”. وفي رواية عند البخاري أيضًا قالت: “تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ”.
وعليه: فقد ضمن اليهوديُّ مالَه بالدرع الذي يفوق ثمنُه ثمنَ الشعير، فلا تعارض ولا تناقض، بل الحديث يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رتب مقابل الدين بالدرع.
المفتي: د خالد نصر