(ع16)ما حكم المسلمين أمثالنا الذين يعيشون في بلاد الكفر من مسألة الولاء والبراء؟ خصوصًا في هذه الأيام، وفي ظل ما يحصل من انحطاط أو انعدام أخلاقي بخصوص الشواذ والمتحولين جنسيًّا، وما إلى ذلك. قد يمكن أن يخسر الشخص عمله إذا كان موظفًا أو أن يتأذى مالك متجر إذا أبدى رأيه أو تكلم علنًا عن تلك المسائل، وإذا سكتنا، سكتنا على غيظ. فما هو الواجب علينا كمسلمين؟ وكيف يجب علينا التصرف في مثل هذه الحالات؟ وهل يدخل السكوت أو التكلم مدخل الولاء والبراء في هذه الحال؟

أولًا: تعريف المصطلحين:
الولاء لغة: هو اسم مصدر من وَالَى، فيقال: وَالَى ولاءً وموالاة. وهو في الاستعمال اللغوي يطلق على عدة أمور منها القلبي ومنها الفعلي، فالمحبة ولاء، والنصرة ولاء، والقرب من أحد في العلاقة ولاء، والاتِّبَاع ولاء.
أما من جهة الاستعمال الشرعي: فلا يخرج كثيرًا عن هذه المعاني.
فالولاء يطلق ويقصد به تبعية العشيرة، ويقصد به أيضًا الانتماء إلى فرد أو جماعة والانتساب إليهم حقًّا على الموالي أو اختيارًا منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» [رواه البخاري ومسلم]، ومنه قولهم: فلان القرشي، أو المضري، أو الشيباني، وليس منهم حقيقة بل بالولاء، وأكثره كان يقع من العجم.
وأما البراء: فهو أيضا اسم مصدر من برئ براءً وبراءةً، قال تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26]. ومعناه البعد والمفارقة والعداوة .
وهو في الاصطلاح يحمل نفس المعنى؛ بحصول النفرة والعداوة القلبية أو الفعلية من شيءٍ أو فرد أو جماعة.
ثانيًا: وردت عدة نصوص تتحدث عن الولاء والبراء بمفهومهما الشرعي:
فمنه في الولاء:
– قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [المائدة: 80، 81].
فقد ذمهم لموالاتهم الكفار، وهو ولاء منهي عنه.
– وقال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56]
– وفي الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «الْمُوَالَاةُ فِي اللهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ» [رواه أحمد].
ومنه في البراء:
– قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1].
– وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
– وفي الحديث الشريف: عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترِط عليّ فأنت أعلم، قال: «أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ» [رواه أحمد].
فقوله: «تفارق المشركين» فيه معنى البراء.
ثالثًا: الولاء والبراء هي في أصلها أمور قلبية، تنعكس في الأفعال عادة، ونقول عادة لا دائمًا ليخرج المضطر والمتأول والمأذون كفعل نعيم بن مسعود رضي الله عنه في غزوة الأحزاب، وكفعل محمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف. فمن شروط الولاء حصول الرضا بها في القلب وانعكاسه في الفعل، مع قيام التلازم بين الظاهر والباطن عادة ، ونقول عادة وليس دائما ليخرج ما ذكرنا من قبل.
وعليه: فمن خرج في جيش الكفار لقتال المسلمين فهو موال لهم قضاء، وحكمه عندنا حكم الموالي، وقد يكون كذلك ديانة أو لا يكون، فأمره في الديانة إلى الله.
ومن تبرأ من الكفار وانضم للمسلمين فهو موال للمسلمين مظاهر الكفار قضاء، وقد يكون كذلك ديانة أو لا يكون وأمره في الديانة إلى الله .
ولنا حكم الظاهر والله يتولى الضمائر.
رابعًا: الولاء والبراء لهما بالمعاني والمقدمات السابقة صور وتجليات ومنها :
– اتخاذ الكفار أصدقاء وندماء دون المسلمين، وقولنا دون المسلمين ليخرج من لديه أصدقاء من هؤلاء وأولئك.
– نصرة الكفار في قضاياهم الدينية، والعقدية.
– محاربة المسلمين أو التجسس عليهم أو الكيد لهم لصالح الكفار قولا أو فعلا.
– تمجيد قوانين ملة الكفر والترويج لها، وإن كانت مخالفة للشريعة.
– ترديد مقولات أعداء الإسلام والطعن في المعلوم من الدين بالضرورة كنبوة سيدنا النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، أو سلامة نقل القرآن الكريم.
خامسًا: هناك صور وتجليات لا تعد من الولاء والبراء بمفهومها الشرعي:
– الخضوع الجبري للقوانين المخالفة للشريعة لعلة الضرورة.
– الإقامة في بلاد الكفر أو بين ظهرانيهم مع القدرة على إظهار شعائر الدين ولو أكثرها كصلاة الجمعة والجماعة والجنازة والأذان.
– مشاركة أهل الموطن (مكان الإقامة) الدفاع عنه ضد المعتدي.
– الالتزام بالقوانين واللوائح التي لا تخالف الشريعة، أو التي يمكن تأويلها على وجه شرعي ولو مرجوح.
سادسًا: بالنسبة لمسألة إنكار ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية في غير بلاد الإسلام، فالأصل أن المسلم له ثلاث مراتب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مذكورة في الحديث المشهور، وغالب حال الناس يقع في الصنف الثالث وهو المنكر بقلبه في الشأن العام أو الذي تعم به البلوى كمسألة الشواذ التي وردت في السؤال، ولا يناقض هذا مبدأ البراء الذي أشرنا إليه، ولكن كي يكون البراء كاملا لا بد من وقوع ما نسميه بالعزلة الشعورية .
يقول الأستاذ سيد قطب: (ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما اشتدَّ الضغط علينا، حين نعتزل الناس؛ لأنّنا نحسّ أنّنا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلًا، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيرًا، اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة، إنّ العظمة الحقيقية أن نخالط الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع، ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملّق هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم بأنَّنا أعلى منهم أفقاً، إنَّ التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية).
فالمسلم قد يعيش في محيط غير إسلامي جبرًا أو اختيارًا، ولكنه لا بد أن يجعل بينه وبين محيطه حاجزًا حصينا مبعثه داخليًّا، يحصنه من الذوبان في هذا المحيط.
سابعًا: من المهم جدًّا ألا نقصر مفهوم الولاء والبراء على المعنى الديني فقط، بل له معانٍ مستصحبة في جوانب أخرى، وهذه المعاني قد تتنافر أحيانًا وتتراسل أحيانًا أخرى، ومثال ذلك أننا قد لا يتولى بعضنا بعضًا من جهة الدين ولكن يتولى بعضنا بعضًا من جهة الوطن، ففي حروب المسلمين القديمة حاربت القبائل العربية النصرانية مع المسلمين ضد الفرس، ومثله حدث وقت الحروب الصليبية، وفي العصور الحديثة حارب أبناء الوطن الواحد من المسلمين والمسيحيين ضد العدو المحتل المشترك في صور كثيرة،
فهنا معادلة براءة الدين وولاء الوطن.
ومن ذلك أيضا ولاء القيم، ومنه حلف الفضول ووثيقة المدينة، حتى وإن قام براء الدين.
فالمسلم لا بد أن يعرف هذه المفاهيم والضوابط حتى لا يعمم تلك المفاهيم الخطيرة.
وأخيرًا: لا يجب أن نتخذ من مفهوم الولاء والبراء بابًا للحكم على الناس والتسلط عليهم بالتكفير والتفسيق والتبديع، لا سيما مع قيام التراسل والتداخل أحيانًا، فما لم يكن الأمر فصلًا قطعًا لا يجب أن نطلق العنان للأوصاف.
المفتي: د خالد نصر