أولا: معنى كلمة مدد من جهة اللغة هو ما يزاد به الشيء ويكثر، والمدد طلب العون، ويجمع على أمداد.
ويكثر استعماله في الحرب، حيث يلحق بالجيش ما يعينه فيكون مددًا له، أي تقوية له.
وقد وردت كلمة المدد في القرآن على هذا المعنى في آيات منها:
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ [آل عمران: 124].
﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125].
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9].
وكلها تدل على الدعم بأنواع مختلفة من الملائكة في العدد وفي الهيئات وفي الوظائف.
والمدد كما يكون في الخير قد يقع في الشر أيضًا ومنه ما حكاه القرآن عن مدد الغي والإضلال، قال تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يُمِدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) [الأعراف: 202]. على قراءة ضم الياء وكسر الميم من المدد، وهي قراءة نافع.
ومنه كذلك مدد الإمهال والاختبار كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ [الإسراء: 6]. وذلك في بني إسرائيل مددًا على عدوهم.
وعلى ذلك فكلمة (مدد) كلمة محايدة لا تحمل في نفسها حكمًا شرعيًّا، وإنما مدارها على الاستعمال، فقد يكون مباحاً وقد يكون ممنوعًا.
فمن يطلب المدد من عدو الله استعانة على المسلم ففعله محرم، ومدده ممنوع؛ لأنه استعمل سببًا ممنوعًا.
ومن يطلب المدد من غيره فيما أقدره الله عليه وفيما هو مباح فهو مباح.
ثانيا: ذكرنا أن القرآن نص على طلب المدد ﴿تستغيثون ربكم﴾، وكذلك جاء في السنة الاستمداد من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة، ومن ذلك:
– ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ).
– ومن ذلك استمداد الصحابة من عمر في وقعة اليرموك فيما رواه أحمد وابن حبان عن عياض الأشعري قال: (شهدت اليرموك وعليها خمسة أمراء: أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض بن غنم رضي الله عنهم، قال عمر رضوان الله عليه: إذا كان قتالٌ فعليكم أبو عبيدة. فكتبنا إليه: أن قد جاش إلينا الموت [أي كثر واشتد]، واستمددناه، فكتب إلينا: إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على ما هو أعز نصرًا وأحصن جندًا؛ الله فاستنصروه؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم قد نُصِرَ بأقل مِن عددكم، فإذا أتاكم كتابي، فقاتلوهم ولا تراجعوني، قال: فقاتلناهم فهزمناهم وقتلناهم أربع فراسخ).
والمدد هنا هو الأسباب التي يقدر عليها المستمَد.
فطلب العون والمدد من صاحب العون أو من يظن به جائز فيما يعلم أنه من سلطانه.
ولا يزال المسلم يطلب المدد والعون من غيره طائعًا كان أو عاصيًا فيما يظن أنه يقدر عليه، وذلك لأن الله ربط المسببات بالأسباب، والأسباب متنوعة، ولا تحصل جميعًا لواحد من الناس، بل هي موزعة في الخلق، فهذا لديه المال، وهذا لديه الصحة، وهذا لديه الصنعة، وهذا لديه القدرة وهكذا، فكلٌّ يستمد من أسباب غيره ليحصل له مراد نفسه، والحقيقة أن الأسباب والمسببات هي من الله سبحانه وتعالى الذي منحها بعض خلقه ليتخذ بعضهم بعضاً أغراضًا.
والأخذ بالأسباب ليس نقصًا في الإيمان ولا اليقين.
فقد أمر الله مريم بهز النخلة ليسقط ثمرها، وأمر النبيُّ الصحابيَّ بعقل الناقة كي لا تهرب، وكلها أسباب مادية.
ثالثا: ثبت بالأدلة الصحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم ومثله باقي الأنبياء يحيون في قبورهم حياة خاصة، لهم فيها أعمال خاصة وعامة:
ومما ورد في ذلك:
– ما أخرجه مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره» وفي رواية لأحمد: «لما أسري بي مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره».
– ومثله ما نقله أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر موسى عليه السلام وهو قائم يصلي فيه.
– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلون» [رواه البزار وأبو يعلى والبيهقي وابن منده].
– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «..وقد رأيتني في جماعة الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي، وإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعنى نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم» [رواه مسلم].
– وأخرج أبو داود والبيهقي عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم تعرض علي، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ يعني: بليت، فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء».
– وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، والأصبهاني في الترغيب والترهيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيًّا أُبْلِغْتُهُ».
– وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور».
– وعن ابن مسعود أيضًا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «حياتي خير لكم تحدثون ويُحدث لكم، ووفاتي خير لكم تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله، وما رأيت من شرٍّ استغفرت الله لكم». [صححه الهيثمي والسيوطي والقسطلاني ورجاله رجال الصحيح].
– وقد ذكر جمع من الأئمة من أصحاب السير نقلا عن سعيد بن المسيب أنه كان يسمع الأذان والإقامة من القبر الشريف أيام الحرة ولم يكن أحد يصلي في المسجد وقتها.
نقل ذلك ابن سعد والواقدي والدارمي والزبير بن بكار وغيرهم.
هذا من جهة النقل:
أما من جهة المعقول فكما يقول سيدنا الشيخ المطيعي: (فإذا كانت الأفعال في عالم الملك إنما تظهر بواسطة البدن ما دام حيًّا بالحياة الحيوانية، فإذا مات وفقد الحياة الحيوانية بقيت نفسه وروحه على حياتها الملكوتية، وتعلقت بجسمه تعلقًا آخر على وجه آخر يعلمه الله تعالى كما دل عليه نعيم القبر وعذابه. فإذا كان الفعل في الواقع ونفس الأمر إنما هو للنفس والروح، والجسم آلة يظهر به الفعل، والروح باقية خالدة، ففعلها باقٍ وتصرفها في أفعالها لا يتغير إلا بعدم ظهور الأفعال بواسطة البدن).
ففقدان الجسد لا يعني العدم المطلق، بل يعني فقدان أسباب الجسد فقط، ويبقى ما تعلق بالروح من أسباب إذ هي باقية، ولذلك يحصل التزاور بين الأموات والأحياء، فيحملون لهم الرسائل عن عالهم؛ عالم البرزخ، ويدعون لهم، ويفرحون بهم، ويحزنون لهم بجامع علاقة الروح.
رابعًا: ما ذكرناه من حال الأنبياء يقل قريبًا منه حال الشهداء، وقد نص القرآن على أنهم أحياء يرزقون؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].
وذكر القرطبي وغيره في معنى ﴿يرزقون﴾: أنهم يأكلون ويشربون من عطاء الجنة مع أن الأكل والشرب من أعمال الأجساد.
قال القرطبي: (ولا يتعجل الأكل والنعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة، حكاه ابن العربي).
وأما غير الشهيد فإنما يعرض عليه مقعده في الجنة؛ إن كان من أهلها، حتى يبعث يوم القيامة.
فإذا ثبت أن حياة البرزخ حياة خاصة يغيب فيها الجسد وتبقى الروح، فلا يمتنع مخاطبة الروح سواء كانت روح نبي أو شهيد أو ولي، وإذا كان طلب المدد من الحي جائزًا ومباحًا وإن كان كافرا، فيكون طلب المدد من النبي أو الولي أو الشهيد جائزًا فيما يقدر عليه وهو في حاله، لأن انحلال روحه عن جسده لم يعدمه الآلة بالمطلق بدليل ما ذكرناه.
ولكن يشترط هنا أن يكون المستمد من النبي أو الولي أو الشهيد هو مما أعطاه الله إياه.
فالمدد من النبي هو الدعاء والشفاعة والشفقة على المستمد.
والمدد من الشهيد والولي هو الشفاعة والدعاء.
ومن المهم أن نؤمن أن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من ربه لم تذهب بموته، بل هي باقية، وما دامت باقية فلازمها باق.
وكذلك ليس من العدل أن تكون بركة دعواته مقصورة فقط على من شهده وعاينه، ومحجوبة عمن آمن به ولم يعاينه، فيذهب المعاين بالخير كله؛ بل بركته مبثوثة في أمته إلى يوم الدين، وأقلها رد السلام على من سلم.
وخلاصة ما تقدم أن طلب المدد من النبي صلى الله عليه وسلم جائز مباح بشرط أن تكون نية المستمد أنه يستمد ما يقدر عليه النبي في حاله من الأسباب، وفي حاله من الله.
ومعنى (في حاله من الأسباب) أي يطلب منه ما يعتقد أن أسبابه معه؛ فلا يقول: يا رسول الله أعطني درهمًا؛ لأن الدرهم عرض وعالم الأرواح لا يتعامل بالأعراض.
ولكن له أن يقول: يا رسول الله أستشفع بك عند ربي أن يرزقني درهمًا، أو يا رسول الله ادع لي ربك أن يرزقني درهمًا؛ لأن الدعاء مما أقدر الله نبيه عليه في حاله.
ومعنى (في حاله من الله) أن يستيقن المستمد أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، وأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.
فإذا وقع الحال على هذا المعنى جاز المدد والاستمداد، ومثل ذلك من الولي الصالح أو الشهيد؛ كل فيما أقدره الله له من أسباب عالم البرزخ.
وأخيرًا:
إذا ثبت نقلا واتفق عقلا أن الأنبياء يصلون في قبورهم، فما الذي يمنعهم من الدعاء لأتباعهم وطالبيهم في صلاتهم كما ندعو نحن في صلاتنا لمن نشاء.
وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يرد السلام والتحية، فما الذي يمنع أنه يردها بأفضل منها وهو أهل المكرمات، فتكون زيادته باب خير لنا في الدنيا والآخرة.
وإذا جاز هذا في حقه نصًّا صحيحًا وعقلا صريحًا فما الذي يمنعنا من طلب ذلك منه وقد أعطاه الله فضيلة سماعنا، بل والرد علينا، فيكون ذلك منه مددًا لنا، ويكون ذلك منا استمدادًا منه!
المفتي: د خالد نصر
ويكثر استعماله في الحرب، حيث يلحق بالجيش ما يعينه فيكون مددًا له، أي تقوية له.
وقد وردت كلمة المدد في القرآن على هذا المعنى في آيات منها:
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ [آل عمران: 124].
﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125].
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9].
وكلها تدل على الدعم بأنواع مختلفة من الملائكة في العدد وفي الهيئات وفي الوظائف.
والمدد كما يكون في الخير قد يقع في الشر أيضًا ومنه ما حكاه القرآن عن مدد الغي والإضلال، قال تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يُمِدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) [الأعراف: 202]. على قراءة ضم الياء وكسر الميم من المدد، وهي قراءة نافع.
ومنه كذلك مدد الإمهال والاختبار كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ [الإسراء: 6]. وذلك في بني إسرائيل مددًا على عدوهم.
وعلى ذلك فكلمة (مدد) كلمة محايدة لا تحمل في نفسها حكمًا شرعيًّا، وإنما مدارها على الاستعمال، فقد يكون مباحاً وقد يكون ممنوعًا.
فمن يطلب المدد من عدو الله استعانة على المسلم ففعله محرم، ومدده ممنوع؛ لأنه استعمل سببًا ممنوعًا.
ومن يطلب المدد من غيره فيما أقدره الله عليه وفيما هو مباح فهو مباح.
ثانيا: ذكرنا أن القرآن نص على طلب المدد ﴿تستغيثون ربكم﴾، وكذلك جاء في السنة الاستمداد من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة، ومن ذلك:
– ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ).
– ومن ذلك استمداد الصحابة من عمر في وقعة اليرموك فيما رواه أحمد وابن حبان عن عياض الأشعري قال: (شهدت اليرموك وعليها خمسة أمراء: أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض بن غنم رضي الله عنهم، قال عمر رضوان الله عليه: إذا كان قتالٌ فعليكم أبو عبيدة. فكتبنا إليه: أن قد جاش إلينا الموت [أي كثر واشتد]، واستمددناه، فكتب إلينا: إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على ما هو أعز نصرًا وأحصن جندًا؛ الله فاستنصروه؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم قد نُصِرَ بأقل مِن عددكم، فإذا أتاكم كتابي، فقاتلوهم ولا تراجعوني، قال: فقاتلناهم فهزمناهم وقتلناهم أربع فراسخ).
والمدد هنا هو الأسباب التي يقدر عليها المستمَد.
فطلب العون والمدد من صاحب العون أو من يظن به جائز فيما يعلم أنه من سلطانه.
ولا يزال المسلم يطلب المدد والعون من غيره طائعًا كان أو عاصيًا فيما يظن أنه يقدر عليه، وذلك لأن الله ربط المسببات بالأسباب، والأسباب متنوعة، ولا تحصل جميعًا لواحد من الناس، بل هي موزعة في الخلق، فهذا لديه المال، وهذا لديه الصحة، وهذا لديه الصنعة، وهذا لديه القدرة وهكذا، فكلٌّ يستمد من أسباب غيره ليحصل له مراد نفسه، والحقيقة أن الأسباب والمسببات هي من الله سبحانه وتعالى الذي منحها بعض خلقه ليتخذ بعضهم بعضاً أغراضًا.
والأخذ بالأسباب ليس نقصًا في الإيمان ولا اليقين.
فقد أمر الله مريم بهز النخلة ليسقط ثمرها، وأمر النبيُّ الصحابيَّ بعقل الناقة كي لا تهرب، وكلها أسباب مادية.
ثالثا: ثبت بالأدلة الصحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم ومثله باقي الأنبياء يحيون في قبورهم حياة خاصة، لهم فيها أعمال خاصة وعامة:
ومما ورد في ذلك:
– ما أخرجه مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره» وفي رواية لأحمد: «لما أسري بي مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره».
– ومثله ما نقله أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر موسى عليه السلام وهو قائم يصلي فيه.
– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلون» [رواه البزار وأبو يعلى والبيهقي وابن منده].
– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «..وقد رأيتني في جماعة الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي، وإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعنى نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم» [رواه مسلم].
– وأخرج أبو داود والبيهقي عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم تعرض علي، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ يعني: بليت، فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء».
– وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، والأصبهاني في الترغيب والترهيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيًّا أُبْلِغْتُهُ».
– وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور».
– وعن ابن مسعود أيضًا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «حياتي خير لكم تحدثون ويُحدث لكم، ووفاتي خير لكم تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله، وما رأيت من شرٍّ استغفرت الله لكم». [صححه الهيثمي والسيوطي والقسطلاني ورجاله رجال الصحيح].
– وقد ذكر جمع من الأئمة من أصحاب السير نقلا عن سعيد بن المسيب أنه كان يسمع الأذان والإقامة من القبر الشريف أيام الحرة ولم يكن أحد يصلي في المسجد وقتها.
نقل ذلك ابن سعد والواقدي والدارمي والزبير بن بكار وغيرهم.
هذا من جهة النقل:
أما من جهة المعقول فكما يقول سيدنا الشيخ المطيعي: (فإذا كانت الأفعال في عالم الملك إنما تظهر بواسطة البدن ما دام حيًّا بالحياة الحيوانية، فإذا مات وفقد الحياة الحيوانية بقيت نفسه وروحه على حياتها الملكوتية، وتعلقت بجسمه تعلقًا آخر على وجه آخر يعلمه الله تعالى كما دل عليه نعيم القبر وعذابه. فإذا كان الفعل في الواقع ونفس الأمر إنما هو للنفس والروح، والجسم آلة يظهر به الفعل، والروح باقية خالدة، ففعلها باقٍ وتصرفها في أفعالها لا يتغير إلا بعدم ظهور الأفعال بواسطة البدن).
ففقدان الجسد لا يعني العدم المطلق، بل يعني فقدان أسباب الجسد فقط، ويبقى ما تعلق بالروح من أسباب إذ هي باقية، ولذلك يحصل التزاور بين الأموات والأحياء، فيحملون لهم الرسائل عن عالهم؛ عالم البرزخ، ويدعون لهم، ويفرحون بهم، ويحزنون لهم بجامع علاقة الروح.
رابعًا: ما ذكرناه من حال الأنبياء يقل قريبًا منه حال الشهداء، وقد نص القرآن على أنهم أحياء يرزقون؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].
وذكر القرطبي وغيره في معنى ﴿يرزقون﴾: أنهم يأكلون ويشربون من عطاء الجنة مع أن الأكل والشرب من أعمال الأجساد.
قال القرطبي: (ولا يتعجل الأكل والنعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة، حكاه ابن العربي).
وأما غير الشهيد فإنما يعرض عليه مقعده في الجنة؛ إن كان من أهلها، حتى يبعث يوم القيامة.
فإذا ثبت أن حياة البرزخ حياة خاصة يغيب فيها الجسد وتبقى الروح، فلا يمتنع مخاطبة الروح سواء كانت روح نبي أو شهيد أو ولي، وإذا كان طلب المدد من الحي جائزًا ومباحًا وإن كان كافرا، فيكون طلب المدد من النبي أو الولي أو الشهيد جائزًا فيما يقدر عليه وهو في حاله، لأن انحلال روحه عن جسده لم يعدمه الآلة بالمطلق بدليل ما ذكرناه.
ولكن يشترط هنا أن يكون المستمد من النبي أو الولي أو الشهيد هو مما أعطاه الله إياه.
فالمدد من النبي هو الدعاء والشفاعة والشفقة على المستمد.
والمدد من الشهيد والولي هو الشفاعة والدعاء.
ومن المهم أن نؤمن أن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من ربه لم تذهب بموته، بل هي باقية، وما دامت باقية فلازمها باق.
وكذلك ليس من العدل أن تكون بركة دعواته مقصورة فقط على من شهده وعاينه، ومحجوبة عمن آمن به ولم يعاينه، فيذهب المعاين بالخير كله؛ بل بركته مبثوثة في أمته إلى يوم الدين، وأقلها رد السلام على من سلم.
وخلاصة ما تقدم أن طلب المدد من النبي صلى الله عليه وسلم جائز مباح بشرط أن تكون نية المستمد أنه يستمد ما يقدر عليه النبي في حاله من الأسباب، وفي حاله من الله.
ومعنى (في حاله من الأسباب) أي يطلب منه ما يعتقد أن أسبابه معه؛ فلا يقول: يا رسول الله أعطني درهمًا؛ لأن الدرهم عرض وعالم الأرواح لا يتعامل بالأعراض.
ولكن له أن يقول: يا رسول الله أستشفع بك عند ربي أن يرزقني درهمًا، أو يا رسول الله ادع لي ربك أن يرزقني درهمًا؛ لأن الدعاء مما أقدر الله نبيه عليه في حاله.
ومعنى (في حاله من الله) أن يستيقن المستمد أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، وأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.
فإذا وقع الحال على هذا المعنى جاز المدد والاستمداد، ومثل ذلك من الولي الصالح أو الشهيد؛ كل فيما أقدره الله له من أسباب عالم البرزخ.
وأخيرًا:
إذا ثبت نقلا واتفق عقلا أن الأنبياء يصلون في قبورهم، فما الذي يمنعهم من الدعاء لأتباعهم وطالبيهم في صلاتهم كما ندعو نحن في صلاتنا لمن نشاء.
وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يرد السلام والتحية، فما الذي يمنع أنه يردها بأفضل منها وهو أهل المكرمات، فتكون زيادته باب خير لنا في الدنيا والآخرة.
وإذا جاز هذا في حقه نصًّا صحيحًا وعقلا صريحًا فما الذي يمنعنا من طلب ذلك منه وقد أعطاه الله فضيلة سماعنا، بل والرد علينا، فيكون ذلك منه مددًا لنا، ويكون ذلك منا استمدادًا منه!
المفتي: د خالد نصر