أولا: اختلف الناس في وقت مولده الشريف، وإن اتفقوا على أنه كان يوم الاثنين، وذلك لما ورد فيه من النص.
ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ».
ومع ذلك وقع الخلاف في أي شهر وفي أي يوم من الشهر.
وخلاصة أهم الآراء:
١- أنه كان مقدم ربيع الأول، يوم الثاني أو الثالث.
٢- أنه كان في ربيع الأول، ولكن يوم الثامن.
٣- ما رجحه محمود باشا الفلكي حيث ذهب إلى أنه كان يوم التاسع من شهر ربيع الأول.
٤- ما ذهب إليه الجمهور، وهو أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وروى أصحاب هذا الرأي عن جابر وابن عباس أنه ولد عام الفيل في الثاني عشر من ربيع الأول.
وهناك آراء أخرى أعرضنا عن ذكرها.
ثانيا: اختلف الناس قديمًا وحديثًا في مسألة الاحتفال بالمولد الشريف:
فيرى البعض أنه من القربات، بل هو من أجلها تعظيمًا لمقامه الشريف، وإظهارًا للفرحة بمجيئه، كما هو الحال بالفرحة بنجاة موسى من فرعون، وإسماعيل من الذبح.
ويرى البعض أن هذا الفعل من المحدثات التي لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولذا فهي من البدع المحدثة.
والصواب هو الرأي الأول، وسأذكر تفصيل المسألة في عنوانين:
الأول: أدلة جواز الاحتفال بالمولد الشريف.
الثاني: تفنيد دعاوى من يقول أن الاحتفال بدعة.
فأقول وبالله التوفيق والسداد:
الأول: أدلة جواز الاحتفال بالمولد الشريف:
تواترت الأدلة في جواز الاحتفال بالمولد الشريف، وهي ما بين أدلة سماعية واستدلالية، ومنها:
١- قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾ [يونس: 58].
قال جمع من المفسرين أن المقصود بالرحمة هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم.
قال التستري المتوفى سنة ٢٨٣هـ: (أي بتوحيده ونبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]).
وقال خالد بن معدان كما نقل عنه الثعلبي: (فضل الله الإسلام وبرحمته السنة). ومثله عن سهل بن عبد الله.
وقال ابن عطية المتوفى سنة ٥٤٢هـ في محرره: (وقالت فرقة: الفضل محمد صلى الله عليه وسلم والرحمة الإسلام).
وقال ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧هـ في زاد المسير: (والثالث أن فضل الله العلم، ورحمته محمد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس).
وقال أبو حيان المتوفى سنة ٧٤٥هـ في بحره: (وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم).
وعلى ذلك غير هؤلاء كالسيوطي في الدر المنثور، والألوسي في روح المعاني.
ففي هذه الآية أمرنا الله سبحانه بأن نفرح بالرحمة التي هي النبي صلى الله عليه وسلم، والفرح هنا عام يشمل كل أشكال الفرح، فمن صلى عليه فقد فرح به، ومن احتفى بيوم مولده فقد فرح به.
٢- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5].
قال المفسرون: يذكرهم باليوم الذي نجاهم فيه من فرعون، وبنعمة المن والسلوى.
وقالوا: يذكرهم بأيام عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط.
فإذا كان تذكير الناس بهذه الأشياء مما جاء في مقصودها ومعناها، فكيف بنا بيوم مولده صلى الله عليه وسلم، وهو من أجلِّ الأيام، أليس يوم مولده أولى بالذكرى والتذكير؟!
٣- قوله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33] فقد خص بالسلام ثلاثة أيام؛ لأنها أهم أيام في حياة الإنسان، وكذلك الأنبياء، ولكنها لما كانت بالنسبة للأنبياء بركة ورحمة عليهم وعلى أتباعهم خصها بالسلام، ومثله جاء مع سيدنا يحيى ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 15].
وكذلك الحال مع سيدنا النبي فيوم مولده يوم عظيم يستحق السلام قولا وفعلا.
٤- أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفى بيوم مولده بعبادة من أهم العبادات وهي الصوم، كما جاء في حديث مسلم أنه سئل عن سبب صومه هذا اليوم فقال: «هَذَا يَوْمٌ فِيهِ وُلِدْتُ». والعبرة هنا ليست في الصوم ولكن تخصيص يوم مولده بصوم، تقربا إلى الله، فكل من استن به هنا فخص يوم مولده بقربى فقد استن بالنبي عليه الصلاة والسلام.
٥- أن يوم مولده كان رحمة حتى على الكافر، ومن ذلك ما نقله ابن حجر في الفتح عن السهيلي قول العباس بن عبد المطلب: (لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال. فقال: ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها).
فإذا كان الكافر قد أفاد من فعله فرحًا بيوم مولده، فما بالنا بالمسلم المتبع الذي يظهر الفرح بمولده؟!
٦- أن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة صحابته ربط الأحداث الكبرى بالاحتفاء، فمن ذلك تأكيده على صوم عاشوراء احتفاء بنجاة موسى من فرعون، ومنه الاحتفاء بيوم الجمعة لأنه يوم مولد آدم، واحتفاء عمر بيوم مهاجره بجعله رأسا للسنة الهجرية.
فلا أقل أن يستنّ المسلمون بنبيهم في ربط الاحتفال بيوم عظيم، وليس أعظم من يوم مولده.
٧- قوله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» [رواه مسلم]، ولا يقول عاقل أن الفرحة بمولده والاحتفال به من الأمور السيئة؛ لأن الأفعال إما حسنة وإما سيئة، فما ليس سيئا فهو حسن. فهل قراءة القرآن والذكر والصلاة عليه وإنشاد المدائح فيه، وصنع المأكل للمحتفلين، وتزيين البيوت والشوارع وغير ذلك، سنن سيئة؟!
فبهذا الحديث أذن النبي لمن بعده في إحداث أفعال وأوصاف لا حصر لها ما دامت في نطاق الحسن.
٨- أن في الفرح بمولده إسعادًا لقلوب المؤمنين، وإحزانًا لقلوب المبغضين، وهذا يكفي من باب نصرة الدين ونبي الإسلام، قال تعالى: ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: 120].
ولا شك أن في إظهار الاحتفال والسعادة به صلى الله عليه وسلم ما يغيظ أعداء الإسلام، فلنا بالاحتفال عمل صالح.
٩- أن في صورة الاحتفال بالمديح تشبه بالصحب الكرام الذين احتفوا بمدح النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم:
حسان بن ثابت وقد جعل له عمر بن الخطاب منبرًا في المسجد يمدح منه النبي ويلتف حوله جماعة المؤمنين.
ومنهم كعب بن زهير في قصيدته الشهيرة بانت سعاد، ومنهم العباس بن عبد المطلب في مديحه له أثناء قفوله من تبوك، وغيرهم.
فالاحتفال بالمولد الشريف هو اتباع في صورته للصحب الكرام الذين خصوه بالمديح والمآثر.
١٠- أن في تخصيص يوم مولده بالاحتفال مشابهة بتخصيص مواطن ومواقف وأيام بالاحتفال، فمن ذلك الذبح يوم العاشر من ذي الحجة احتفالا بنجاة سيدنا إسماعيل من الذبح، والسعي بين الصفا والمروة تقليدًا للسيدة هاجر.
كما أن في الاحتفال والإشهار تذكيرًا للغافل، قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].
الثاني: تفنيد دعاوى من يقول ببدعية الاحتفال:
يعتمد المانعون من الاحتفال على ظواهر بعض النصوص، وعلى دليل سلبي في المنع فمن ذلك:
١- يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عليه السلام» [رواه البخاري].
قالوا: في الاحتفال بمولده مشابهة للنصارى!
والحق أن من يستعمل هذا النوع من التحليل عنده جهل بمسالك اللغة.
فالأسلوب هنا نهي مع تشبيه، فالنهي هنا ليس في المطلق، ولكنه مقيد بوجه الشبه، كما يقول بعضنا لبعض: لا تحاسبني محاسبة الغريب. فالطلب هنا ليس نفي المحاسبة، ولكن نفي التشدد؛ لأن رابطة القرابة تشفع في التساهل.
وهذا منه؛ فنهي النبي ليس نهيًا مطلقا عن الإطراء -الذي كان يقع بالقول والفعل- وإنما عن نوع معين من الإطراء وهو زعم أن عيسى هو ابن الله، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسلك معه نفس مسلك النصارى فندعي له ما ليس له من ربه.
أما الاحتفال به فليس إطراءً ممنوعًا؛ لأن النبي احتفل بالأنبياء قبله، وقد أشرنا لقصة عاشوراء.
وهل منع النبي حسانًا من إطرائه وهو القائل:
خلقت مبرَّأً من كل عيب ####### كأنك قد خلقت كما تشاء
أليست مشيئة الخلق بيد الخالق!
ومنه قوله:
وأجمل منك لم تلد النساء
مع أن القرآن قد أثبت جمالا خاصا لسيدنا يوسف!
فهل يقال سكت النبي عن إطراء ممنوع؟!
٢- استدل المانعون بظاهر حديث: «كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ»[رواه مسلم وغيره، واللفظ للنسائي].
قالوا والاحتفال بمولده حادث ولم يقم به الجيل الأول.
وهذا أيضا من ضعف الفهم والتسبيب:
أما قولهم: الاحتفال حادث، فخطأ بين، لأننا أثبتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص يوم مولده باحتفاء، وجعل سبب الاحتفاء هو مولده.
فمن احتفى فقد اقتفى.
وكان أولى بهم أن ينكروا صورة الاحتفال لا أصله.
ومع ذلك فحتى الصورة في أصلها من المباحات، مثلها مثل صورة الاحتفال بالعرس وبالمولود وبالنجاح وبالعودة من السفر، فيها ما يقع ديانة، وفيها ما يقع عرفًا.
فإذا ما جئنا إلى نص الحديث فنقول: لا يمكن أن يكون للفظ (كل) هنا عموم مطلق، وإلا توقف بنا الزمان عند عصر النبوة، وذلك أن الحديث استعمل طريقة القضية المنطقية بطريقة الاستدلال الاستنباطي.
فالجزء الأول: كل محدثة بدعة.
والجزء الثاني: كل بدعة ضلالة.
والجزء الثالث: كل ضلالة في النار.
والنتيجة: كل محدثة ضلالة وهي في النار.
وذلك يشبه ما يورده الفقهاء في مسألة تحريم المسكر؛ فيقولون:
كل مسكر خمر.
وكل خمر حرام.
والنتيجة: كل مسكر حرام.
والسؤال: هل يمكن حمل (كل) في الحديث «كل محدثة بدعة» على العموم، فيصير كل أمر حادث لم يقع هو ضلالة وهو في النار؟!
الجواب بالقطع لا. ليس فقط لأن هذا يعني توقف الزمان عن الحوادث، ولكن أيضا لأن التطبيق العملي في عهد النبوة والصحابة أتى بالحادث الجديد.
هذا أمر، والثاني أن لفظ (كل) هنا يشمل حوادث الدنيا وحوادث الدين، فيكون العموم مانعًا من ركوب غير الخيل والبغال والجمال، ويكون مانعًا من حمل غير السيوف، ويكون مانعًا من الزراعة بالآلات، ويكون مانعًا من السفر بغير السفن والجمال، ويكون مانعًا من أنواع لا تحصى من اللباس والمآكل والعادات.
فإذا ثبت أن هذا غير مقصود قطعا، لأن النبي قبل إحداث ما لم يكن قبل نص الحديث، وأحدث الصحابة من بعده في أمر الدنيا والدين ما لم يكن موجودًا وقت النص، فلا يكون المعنى إلا على سبيل العموم المخصوص.
ولبيان المسألة هنا أفصل القول في بيان الفرق بين العام المطلق، والعام المخصص، والعام الذي أريد به الخصوص.
فأما الأول: فهو اللفظ المستغرق لما يصلح له من غير حصر.
ومثاله قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]. فهو عام غير مخصوص، إذ يشمل كل خلق وكل أمر، ولو دخله الخصوص لحدثت المنازعة في الألوهية.
وأما العام الذي دخله التخصيص فهو ما كان عمومه مستغرقًا ومرادًا، ولكنه دخله ما يرفع الاستغراق في بعض ما يصلح له.
مثال ذلك: قولنا: صلاة الظهر أربع ركعات، فصلاة الظهر أربع ركعات هذا عام في كل مصلٍّ، سواء كان رجلا أو امرأة، مكلفًا أو غير مكلف. ولكن هذا العموم دخله التخصيص في حال السفر فصارت الأربع ركعتين. فيصير العموم مخصصًا بحال الإقامة.
وأما العام الذي أريد به الخصوص، فهو لفظ عام بأصل الوضع، ولكن عمومه غير مراد.
ومثال ذلك: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: 173]، فلفظ الناس المكرر هنا وإن كان يدل على جنس عام غير محدد بأصل الوضع، إلا أنه هنا بواقع السياق يشير إلى مخصوص معلوم، فالناس الأولى تشير إلى نعيم بن مسعود الأشجعي، والناس الثانية تشير إلى أهل مكة وأحلافهم الذين هاجموا المدينة في غزوة الخندق.
فمع عموم لفظ الناس، إلا أنه استعمل بمعنى مخصوص.
ومن ألفاظ العموم لفظ (كل) فبأصل الوضع يجب أن تشمل كل ما يصلح للكلية، ومنه قولنا: كل الناس، فتشمل كل من هو ناس، وكل المؤمنين، تشمل كل مؤمن.
ومع ذلك فإن استعمال اللغة جعل لـ(كل) عموما مطلقا، وعموما أريد به الخصوص.
فمن الأول: قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن: 26]، فهنا الكلية تشمل كل حي على وجه الأرض، ولا تستثني أحدًا من المخلوقين.
ومن الثاني: قوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25]. فمقصود (كل) هنا أريد به الخصوص، والمعنى: تدمر كل شيء أمرت بدماره، وليس كل شيء بالمطلق، وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [الأحقاف: 25]. فبقاء المساكن دل على أنها خرجت من عموم (كل)، ولكن لما كان الأكثر هو الهالك عبر عنه بالكلية.
ولمعرفة الفرق بين (كل) العامة و(كل) التي أريد بها الخصوص نرجع للسياق والمعرفة العرفية، فكل ما جاز فيه الاستثناء فهو ليس كلًّا مطلقًا.
فقولنا: أكرم كل العلماء إلا من غاب منهم. فـ(كل) أريد به الخصوص لوقوع الاستثناء بالنص.
وقولنا: أطعم كل محتاج. هو عموم أريد به الخصوص عرفًا، لأنه لا طاقة لمكلف أن يصل إلى كل محتاج، فيكون المعنى: أطعم كل محتاج تستطيع إطعامه.
وهنا..
إذا ظهر الفرق بين ما تشير إليه كلمة (كل)، نجد أن السنة النبوية قد استعملت لفظ (كل) بالدلالات السابقة.
وسأذكر هنا بعض الأحاديث التي وردت فيها كلمة (كل) وهي تدل على مخصوص:
– قوله صلى الله عليه وسلم: «لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا» [رواه البخاري]. فكل مسلم هنا بعرف الشريعة لا بد أن تقع على المكلفين، لأنهم أهل الحقوق، فيخرج الأطفال مع كونهم من المسلمين، ويخرج المجانين لعدم التكليف، ويخرج أصحاب الأعذار لعذرهم، ويكون المعنى: على كل مسلم مكلف قادر …
– قوله صلى الله عليه وسلم: «الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنَ السَّامِ» [رواه البخاري]، فلفظ (كل) هنا لا يمكن أن يقصد به العموم المطلق فيكون أنها قد تشفي من كل مرض يصيب الإنسان؛ لأن الله لم يخلق لكل الأمراض دواء واحدًا، ولكن التقدير كما قال ابن حجر: (من كل داء تشفي منه، أي بالتجربة). وقال الخطابي: (هو من العام الذي يراد به الخاص. وإلا لترك الناس العلاجات جملة واكتفوا بالحبة السوداء!).
– ومنه قول أبي هريرة: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ» [رواه الشيخان]. ولكن يستثنى هنا رمضان لأن الصوم فيه واجب، بخلاف الموصى به هو تطوع، ومن نوى التطوع بالصوم في رمضان لم يقع منه لانشغال الوقت بالواجب.
وبعد فهذه بعض الأمثلة التي وردت فيها كلمة (كل) ولم يقصد بها العموم، وإنما هو عموم يدل على مخصوص.
فإذا ما عدنا إلى الحديث «كل محدثة بدعة..» نجد أن واقع الحال ومقتضى عمارة الأرض قائم على الأحداث، فكل يوم فيه الجديد غير المسبوق، وقد وقع هذا في حياته صلى الله عليه وسلم ولم يعده ضلالا، ووقع من بعده ولم يعد ضلالا، وما زال يقع التطور في كل شيء بالإحداث ولا يقول عاقل: هذا ضلال!
فلا يبقى إلا أن نخصص فنقول: إن المقصود: كل محدثة في الدين بدعة. فيكون من العام الذي يدل على مخصوص، وهو الدين.
فهل هذا المعنى مقصود؟ وهل كل حادث في الدين بدعة؟
أولا: لا بد أن نحدد مفهوم الحادث في سياق الحديث وليس في المطلق.
فهناك حوادث في الغايات، وهناك حوادث في الوسائل.
والغايات في الدين معلومة لا زيادة عليها، وأما وسائلها فليست محدودة.
فمن ذلك مثلا تعلم قراءة القرآن غاية، ووسيلتها في عهد النبوة مقصورة على التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم، وممن تلقى عليه.
وتطور الزمان وتفرق المكان أتى بالحادث غير المسبوق، فظهرت المدارس والكتاتيب، والمعاهد المتخصصة، وظهر التعليم بالمواجهة، والتعليم عن بعد، ثم أحكمت الدرجات، وقننت القواعد، واخترعت الشهادات والإجازات وغيرها من الحوادث.
فهل يقول عاقل: إن إحداث وسائل جديدة لتحصيل غاية تعلم القرآن من البدع؟!
ومن ذلك أيضا حفظ النظام والأمن العام من الغايات، ووسيلته في عهد النبوة اشتراك مجتمع المدينة في ذلك أفرادًا. ولكن مع تطور الزمان استحدثت وسائل جديدة فصار هناك شرطة، وعسس وقوانين منظمة لحياة الناس في يومهم وليلتهم، وصارت هناك عقوبات وسجون، وقيود على السفر والانتقال من مكان إلى مكان، حتى لزيارة البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف، وكل هذه من المحدثات في الوسائل. فهل يقول عاقل إن كل هذا من الضلال ويجب أن نعود لما كان عليه العهد النبوي حيث مجتمع المدينة المنورة، فيكون الناس أفرادًا هم القائمين على النظام والأمن؟!
ومن ذلك أيضا حفظ النسل بفضيلة الزواج، ووسيلته في العهد النبوي الشريف هو العقد والإشهار.
ولكن مع تطور الزمن حدثت مراسم ومقتضيات أخرى، فصار التوثيق مثلا جزءا من عقد الزواج، وعليه تترتب الحقوق في حالة المنازعة في الحقوق والنسب، وصدرت قوانين منظمة لعملية الزواج والطلاق لم تكن موجودة في العهد الأول.
فهل يقول قائل: إن التوثيق والقوانين المنظمة من المحدثات والضلالات؟!
وقس على ذلك كل ما اقتضى توثيقا الآن، كالوصية والوقف والهبة وغيرها مما نظمه القانون.
فإذا كانت الغايات محفوظة، والوسائل متنوعة، وكان هذا هو روح التشريع، فالفرح والاحتفاء بالمولد الشريف من أجل الغايات، لأنه مأمور به في القرآن، فهو من توقيره: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 9]، وهو من واجب تذكره: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وهو من تعظيمه: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، وهو شعار محبته: « مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ» [رواه مسلم].
ويبقى الكلام في وسيلة إظهار هذه المحبة والتوقير، فما كان مشروعًا جاز، وما خالف الشرع امتنع، فتفرق بين الغاية ووسيلة تحصيل الغاية.
ثانيا: لقد وقعت الحوادث غير المسبوقة من الصحب الكرام ومن التابعين بلا نكير، ولم يعتبر ذلك تعديًا على الدين كما نراه هذه الأيام، ومن ذلك:
– جمع القرآن في مسودة واحدة بدل الصحف المفرقة، ولا يقول قائل: إن النبي لم يكن لديه وقت لفعل ذلك أو أنه كان يخشى النسخ، فقد بقي النبي ثلاثة أشهر بعد نزول آخر قرآن لا ينزل عليه شيء، وإعلامه بذلك من جبريل لم يكن شيئا مستحيلا شرعا، وهذه مدة كافية لجمع القرآن وهو شاهد، مع قيام الحاجة، ومثل ذلك في مسألة النسخ؛ فلو كان النسخ مانعا من الكتابة، لما كتبت آية واحدة في صحيفة، ولما كانت الصحائف تكتب ويقع النسخ ولا حرج، فمثل ذلك في الكتاب يمكن أن يمحى في أي وقت في حياته.
– جمع الناس على إمام واحد في رمضان، بالصورة التي عليها العمل منذ العهد العمري، والتي لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر مع قيام الحاجة.
– إبطال قسمة أرض السواد في العراق على الفاتحين، وتركها ريعًا بين المسلمين، في عهد عمر مخالفة لما كان عليه الحال في عهد النبي وأبي بكر في قسمة الفيء.
– إحداث وظيفة معلم القرآن في المسجد في عهد عمر.
– إيقاف عمر العمل بسهم المؤلفة قلوبهم، مع أن النبي كان يفعله لآخر عمره.
– إسقاط الجزية في عهد سيدنا عمر عن بني تغلب مع كونهم من نصارى العرب، وهذا أمر حادث لم يقع في العهد النبوي ولا عهد أبي بكر.
– ومن ذلك جعل طلاق الثلاث ثلاثًا في عهد عمر أيضًا، وعلى حسب رواية ابن عباس أن ذلك لم يكن الحال في عهد النبي ولا أبي بكر، فيكون حادثا.
– أبطل عمر أيضا بيع أمهات الأولاد، وكن يبعن في عهد النبي وعهد أبي بكر.
– أثبت عمر في حد شرب الخمر عددًا معينًا من الجلد ولم يكن قبله.
– ومثل ذلك أحدث عثمان الآذان الأول يوم الجمعة.
– وجمع عثمان القراءات الصحيحة في كتاب واحد وحرق غيره، وهو أمر لم يقع في عهد من قبله.
– وزاد التابعون في عهد الدولة الأموية في رسم المصحف علامات ونقاطًا، ولم تكن في العهد الأول. وزادوا بعد ذلك في عهد الدولة العباسية علامات الوقف والابتداء، ولم تكون في عهود سابقة.
– وأحدث أئمة الحرمين الالتزام بختم القرآن في صلاة القيام في رمضان، وأحدثوا صلاة التهجد في جماعة، ولم تكن في عهد النبي ولا الصحابة.
– ومن ذلك إحداث ستة درجات في منبر النبي صلى الله عليه وسلم في عهد الدولة الأموية، مع اتساع رقعة المسجد وبعد الناس عن المنبر مع أنه كان ثلاث درجات قبل ذلك.
– ومن ذلك إحداث قوانين علمية لم تكن في العهود الأولى، كأحكام التجويد ومنها تفصيل الصفات والمدود، والوقف والابتداء وغيرها، وكذلك الكلام في العقائد والفلسفة، وقسمة الفقه على مذاهب بأسماء أصحابها، والقراءات بأسماء أصحابها، والمسانيد بأسماء أصحابها، وتحديد التعريفات الاصطلاحية لكل علم وفن، وما يترتب على ذلك ديانة، كل ذلك حادث ولم يكن في العهد الأول.
فهل هذه الأمثلة وغيرها مع كونها من المحدثات تعد من الضلالة التي وردت في الحديث؟!
والصواب الذي يستقيم معه فهم الحديث في ضوء ما سبق أن يكون الإحداث الممنوع في الدين في الغايات وليس في الوسائل، وذلك كمن يحدث فرضًا سادسا للصلاة، أو يجعل رمضان شهرين، أو ينقل فرض الجمعة للأحد مثلا، فكل هذا من الضلال الممنوع، أما الوسيلة الجديدة المباحة مع الغاية المستقرة فلا تدخل في نطاق ما ورد في الحديث.
٣- استدل المانعون بحديث: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [رواه الشيخان].
والحق أن الاستدلال بهذا الحديث في هذا الباب من أعجب ما يكون، وذلك للآتي:
أولا: من جهة النظم نجد أن الضمير في (منه) يعود على الأمر، والأمر هنا مقصود به الدين؛ لأن الحوادث في أمر الدنيا متوقعة.
والسؤال هنا، هل الاحتفال بمولده الشريف والفرحة به، وإظهار السعادة بمقدمه لهذه الدنيا ليس من (أمرنا)؟!
قد نتحدث عن وسيلة الفعل ما يجوز منها وما لا يجوز، لكن هل يمكن أن نختلف في ندب الاحتفاء والاحتفال به وبقدومه، فنعد هذا خارجًا عن الدين؟!
ثانيا: هل أحدث الصحابة أفعالا ترجع إلى أصل، دون الرجوع إليه مسبقًا فأقرهم عليها؟
الإجابة: نعم ولهذا أمثلة منها:
– حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع خشخشة بلال في الجنة، فلما بشره بها، قال بلال للنبي: ما أذنت يوما إلا وصليت ركعتين، وما أحدثت إلا توضأت فصليت ركعتين. ففعل بلال هنا هو اجتهاد منه، وإلا ما سأله النبي عن فعله، إذ يلزم أن يعرف النبي السبب دون استشكال.
فهل كان بلال محدثًا ومبتدعًا، قبل أن يقره النبي صلى الله عليه وسلم؟!
– ومن ذلك ما زاده الصحابي في ذكر الرفع من الركوع، ولم يكن سمعه من النبي من قبل، ولم يعده الرسول إحداثا، حيث إنه من (الأمر).
– ومن ذلك التزام أحد الصحابة بقراءة سورة الإخلاص في كل ركعة بعد قراءة غيرها، وكان هذا حدثًا، لأن أصحابه أنكروا عليه، ولأن النبي قال: «سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟» [رواه الشيخان].
فلو كانت القراءة بهذه الصورة مما أُثِرَ عن النبي في صلاته لما جهلها من معه، ولما قال النبي: سلوه. بل كان يكفي أن يقول لهم: أصاب.
والسؤال: هل كان هذا الصحابي محدثا في (الأمر)؟!
– ومن ذلك استعمال أحد الصحابة الفاتحة في الرقية، دون أثارة من علم سابق، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟» [رواه الشيخان].
فهل كان الصحابي محدثًا في (الأمر) ما ليس منه حينها وقبل أن يقره النبي عليها.
ومثل ذلك أمثلة عدة فعل الصحابة فيها الأمر ثم رجعوا إلى الرسول، وهم في فعلهم أحدثوا ما لم يسمعوه أو يقع لهم به أمر سابق، ومع ذلك لم يحتج عليهم النبي بالحديث السابق، بل صوب من صوب وخطأ من خطأ، لأن المعيار لم يكن مجرد الإحداث، وإنما الإحداث في الأمر وهو الدين.
٤- المانعون استدلوا بدليل سلبي وهو عمدة استدلالهم، ومفاده: أن هذا الأمر على شهرته لم يقع من النبي ولا الصحابة الكرام، ولو كان فيه خير لفعلوه، فهم السابقون بالخير.
وهذه المدافعة ترجع إلى مسألة أصولية مفادها: ما حكم ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟
وقد فصلنا القول في هذه المسألة في بحثنا الموسوم بتروكات العهد النبوي والصحابي (دراسة تحليلية تأصيلية).
وباختصار نقول:
ما ترك النبي فعله على أنواع كثيرة وليس لها حكم واحد، ومن ذلك:
– ما تركه لعدم قدرته عليه وذلك كفعل المستحيل.
– ما تركه جريًا على عادة له أو لقومه كترك أكل الضب.
– ما تركه نسيانًا منه كترك ركعتي من صلاة رباعية لعارض النسيان.
– أن يترك أمرًا لعامل المشقة، كالأمر بالسواك.
– أن يترك أمرًا فيه مصلحة خشية مفسدة أكبر وذلك كترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم.
– ما ترك عمل بعض أفراده من أعمال الخير اعتمادًا على دخوله في أصل عام ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
– ما تركه لأنه لم يكن قد وقع في وقته، وذلك ككثير من الأمور التي ظهرت بعد وفاته ومنها اتخاذ الوزراء والشرطة والجهاز الإداري للدولة ومجامع الإفتاء والقضاة المعينين.
– ما تركه لعدم الحجر على المستقبل ومنه ترك تسعير السلع.
– ما تركه لكونه ممنوعًا عليه دون الأخرين، ومنه أخذ الزكاة، وسماع الناي.
– ما تركه قصدًا في باب العبادات، مثل ترك الأذان للعيد.
والصواب أن ترك النبي لشيء ليس له حكم واحد، بل تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يترك النبي شيئًا ويتوجب علينا فعله، وقد يتركه ويحرم علينا فعله.
– ما تركه ويحرم علينا فعله ومنه الأذان لصلاة العيد أو لصلاة الاستسقاء.
– ما تركه ويكره لنا فعله ومنه إطالة زمن الخطبة.
– ما تركه ويباح لنا فعله ومنه تسعير السلع في الأسواق.
– ما تركه ويندب علينا فعله ومنه استعمال الحساب في تحديد مواقيت الصلاة.
– ما تركه ويجب علينا فعله ومنه ما قام به الصحابة من جمع القرآن، وإقامة القضاء، وتقسيم العلوم، وإقامة دور الإفتاء وغيرها.
هذا ما يخص دعوى الترك، على أننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الاحتفال بمولده الشريف، بل احتفل به بصوم ذلك اليوم، واحتفل به الصحابة بصوم اليوم كذلك اقتداءً به وفرحًا بمولده.
فإذا ثبت هذا بقي الخلاف فقط في صورة الاحتفال، هل يكون بالصوم فقط أو يدخل فيه غير الصوم.
والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صورة الاحتفال بغير الصوم لعلل منها:
– تواضعه المعروف.
– عدم الإثقال على أمته بكلفة قد لا تكون في مقدورهم.
– خشية تحويله إلى ملك من الملوك مثل قيصر وكسرى.
– فقر أهل المدينة في هذه الأوقات وانشغال أهل الإسلام بمرحلة التأسيس.
– أن الصحابة كان يرون النبي كل يوم وليلة، ومن بعد وفاته كانوا حديثي عهد به، فلم يحتاجوا لزيادة في التذكر والتذكير.
أما مع تغير الأحوال وحصول الأمان في كل ما سبق فقد ارتفعت العلل التي منعت من بعض صور الاحتفال، فلن يعلن النبي ملكًا الآن، وحالة المسلمين الاقتصادية تسمح بإظهار أنواع الفرح والاحتفال، ونحن بعيدو عهد به وبصحابته ما يحوجنا للتذكير به وبيوم مولده.
فكل هذه مقتضيات ومسوغات للتوسع في صورة الاحتفال الشريف.
وخلاصة هذه النقطة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد احتفى بيوم مولده ولكن بصورة معينة، ونحن نوافق أصل الاحتفال، ونزيد في الصورة، ودائمًا هناك فرق بين ذات الفعل وهيئة الفعل، فالطواف حول الكعبة ذات الفعل ورمي الجمار ذات الفعل، وقد طاف النبي راكبًا ليراه الناس، وهذه هيئة في الفعل، فلا يقال: إن من يطوف راكبًا هو السنة، بل إن الطواف مع الركوب الآن ممنوع لآنه فيه خطر على الآخرين.
فذات الفعل مستمرة وهيئته متغيرة.
٥- استدل المانعون للاحتفال بالمولد الشريف بما يقع فيه من بعض المخالفات، ومنها المبالغة في الزينات، ومجالس الإنشاد والذكر، وما قد يقع فيها من اختلاط بين الرجال والنساء.
وهذا الاعتراض يقبل فقط إذا كان يرد على الهيئة وليس على أصل الاحتفال.
ونحن نقول أيضا: إنه لا يجوز في الاحتفال إلا ما جاز بالشرع الحنيف.
على أننا لا بد أن نحدد ما يجيزه الشرع وما لا يجيزه:
فلا يمنع الشرع من الزينات وصنع الحلوى وغيرها إذ هي من أعمال الدنيا، وهي من المباحات الأصلية. فلا فرق أن تكون ليوم مولده أو لعرس أو لمناسبة أخرى، وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم إظهار الفرح في الأعراس بأنواع من المظاهر والزينة.
ولا يمنع الشرع من الإنشاد والذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مديحه وأجاز عليه، وما زال الناس يمدحون النبي بأفضل المدائح صنعًا وترديدًا، إنشادًا وحداءً منذ عهد الصحابة.
ولا يمنع الشرع من مجالس الذكر سواء كانت لقرآن أو لذكره صلى الله عليه وسلم، بل هي من المندوبات التي تحضرها الملائكة، وكونها في يوم مولده أفضل من غيره من الأيام، لأن زمان مولده أفضل من غيره، كما أن الذكر في عشر ذي الحجة أفضل من غيرها من الأيام.
والخلاصة أن الاحتفال بالمولد الشريف من المندوبات، وهو من توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، فعله في حياته وفعله الصحابة في صور معينة، وتوسعت الأمة فيه بأصل الإباحة، وترك النبي لصورة معينة من الاحتفال لا يدل على حرمتها أو منعها لقيام علة الترك، ولأن تركَ الهيئة لا يعني حرمة ذات الفعل.
والاحتفال بالمولد الشريف سنة السادة العلماء أصحاب المذاهب الأربعة، وأهل الحقيقة والطريقة وجمهور الأمة، والأثر يقول: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ» [أخرجه أحمد في مسنده].
صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا ونفعنا ببركته في الدنيا والآخرة.
المفتي د خالد نصر
ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ».
ومع ذلك وقع الخلاف في أي شهر وفي أي يوم من الشهر.
وخلاصة أهم الآراء:
١- أنه كان مقدم ربيع الأول، يوم الثاني أو الثالث.
٢- أنه كان في ربيع الأول، ولكن يوم الثامن.
٣- ما رجحه محمود باشا الفلكي حيث ذهب إلى أنه كان يوم التاسع من شهر ربيع الأول.
٤- ما ذهب إليه الجمهور، وهو أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وروى أصحاب هذا الرأي عن جابر وابن عباس أنه ولد عام الفيل في الثاني عشر من ربيع الأول.
وهناك آراء أخرى أعرضنا عن ذكرها.
ثانيا: اختلف الناس قديمًا وحديثًا في مسألة الاحتفال بالمولد الشريف:
فيرى البعض أنه من القربات، بل هو من أجلها تعظيمًا لمقامه الشريف، وإظهارًا للفرحة بمجيئه، كما هو الحال بالفرحة بنجاة موسى من فرعون، وإسماعيل من الذبح.
ويرى البعض أن هذا الفعل من المحدثات التي لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولذا فهي من البدع المحدثة.
والصواب هو الرأي الأول، وسأذكر تفصيل المسألة في عنوانين:
الأول: أدلة جواز الاحتفال بالمولد الشريف.
الثاني: تفنيد دعاوى من يقول أن الاحتفال بدعة.
فأقول وبالله التوفيق والسداد:
الأول: أدلة جواز الاحتفال بالمولد الشريف:
تواترت الأدلة في جواز الاحتفال بالمولد الشريف، وهي ما بين أدلة سماعية واستدلالية، ومنها:
١- قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾ [يونس: 58].
قال جمع من المفسرين أن المقصود بالرحمة هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم.
قال التستري المتوفى سنة ٢٨٣هـ: (أي بتوحيده ونبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]).
وقال خالد بن معدان كما نقل عنه الثعلبي: (فضل الله الإسلام وبرحمته السنة). ومثله عن سهل بن عبد الله.
وقال ابن عطية المتوفى سنة ٥٤٢هـ في محرره: (وقالت فرقة: الفضل محمد صلى الله عليه وسلم والرحمة الإسلام).
وقال ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧هـ في زاد المسير: (والثالث أن فضل الله العلم، ورحمته محمد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس).
وقال أبو حيان المتوفى سنة ٧٤٥هـ في بحره: (وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم).
وعلى ذلك غير هؤلاء كالسيوطي في الدر المنثور، والألوسي في روح المعاني.
ففي هذه الآية أمرنا الله سبحانه بأن نفرح بالرحمة التي هي النبي صلى الله عليه وسلم، والفرح هنا عام يشمل كل أشكال الفرح، فمن صلى عليه فقد فرح به، ومن احتفى بيوم مولده فقد فرح به.
٢- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5].
قال المفسرون: يذكرهم باليوم الذي نجاهم فيه من فرعون، وبنعمة المن والسلوى.
وقالوا: يذكرهم بأيام عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط.
فإذا كان تذكير الناس بهذه الأشياء مما جاء في مقصودها ومعناها، فكيف بنا بيوم مولده صلى الله عليه وسلم، وهو من أجلِّ الأيام، أليس يوم مولده أولى بالذكرى والتذكير؟!
٣- قوله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33] فقد خص بالسلام ثلاثة أيام؛ لأنها أهم أيام في حياة الإنسان، وكذلك الأنبياء، ولكنها لما كانت بالنسبة للأنبياء بركة ورحمة عليهم وعلى أتباعهم خصها بالسلام، ومثله جاء مع سيدنا يحيى ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 15].
وكذلك الحال مع سيدنا النبي فيوم مولده يوم عظيم يستحق السلام قولا وفعلا.
٤- أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفى بيوم مولده بعبادة من أهم العبادات وهي الصوم، كما جاء في حديث مسلم أنه سئل عن سبب صومه هذا اليوم فقال: «هَذَا يَوْمٌ فِيهِ وُلِدْتُ». والعبرة هنا ليست في الصوم ولكن تخصيص يوم مولده بصوم، تقربا إلى الله، فكل من استن به هنا فخص يوم مولده بقربى فقد استن بالنبي عليه الصلاة والسلام.
٥- أن يوم مولده كان رحمة حتى على الكافر، ومن ذلك ما نقله ابن حجر في الفتح عن السهيلي قول العباس بن عبد المطلب: (لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال. فقال: ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها).
فإذا كان الكافر قد أفاد من فعله فرحًا بيوم مولده، فما بالنا بالمسلم المتبع الذي يظهر الفرح بمولده؟!
٦- أن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة صحابته ربط الأحداث الكبرى بالاحتفاء، فمن ذلك تأكيده على صوم عاشوراء احتفاء بنجاة موسى من فرعون، ومنه الاحتفاء بيوم الجمعة لأنه يوم مولد آدم، واحتفاء عمر بيوم مهاجره بجعله رأسا للسنة الهجرية.
فلا أقل أن يستنّ المسلمون بنبيهم في ربط الاحتفال بيوم عظيم، وليس أعظم من يوم مولده.
٧- قوله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» [رواه مسلم]، ولا يقول عاقل أن الفرحة بمولده والاحتفال به من الأمور السيئة؛ لأن الأفعال إما حسنة وإما سيئة، فما ليس سيئا فهو حسن. فهل قراءة القرآن والذكر والصلاة عليه وإنشاد المدائح فيه، وصنع المأكل للمحتفلين، وتزيين البيوت والشوارع وغير ذلك، سنن سيئة؟!
فبهذا الحديث أذن النبي لمن بعده في إحداث أفعال وأوصاف لا حصر لها ما دامت في نطاق الحسن.
٨- أن في الفرح بمولده إسعادًا لقلوب المؤمنين، وإحزانًا لقلوب المبغضين، وهذا يكفي من باب نصرة الدين ونبي الإسلام، قال تعالى: ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: 120].
ولا شك أن في إظهار الاحتفال والسعادة به صلى الله عليه وسلم ما يغيظ أعداء الإسلام، فلنا بالاحتفال عمل صالح.
٩- أن في صورة الاحتفال بالمديح تشبه بالصحب الكرام الذين احتفوا بمدح النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم:
حسان بن ثابت وقد جعل له عمر بن الخطاب منبرًا في المسجد يمدح منه النبي ويلتف حوله جماعة المؤمنين.
ومنهم كعب بن زهير في قصيدته الشهيرة بانت سعاد، ومنهم العباس بن عبد المطلب في مديحه له أثناء قفوله من تبوك، وغيرهم.
فالاحتفال بالمولد الشريف هو اتباع في صورته للصحب الكرام الذين خصوه بالمديح والمآثر.
١٠- أن في تخصيص يوم مولده بالاحتفال مشابهة بتخصيص مواطن ومواقف وأيام بالاحتفال، فمن ذلك الذبح يوم العاشر من ذي الحجة احتفالا بنجاة سيدنا إسماعيل من الذبح، والسعي بين الصفا والمروة تقليدًا للسيدة هاجر.
كما أن في الاحتفال والإشهار تذكيرًا للغافل، قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].
الثاني: تفنيد دعاوى من يقول ببدعية الاحتفال:
يعتمد المانعون من الاحتفال على ظواهر بعض النصوص، وعلى دليل سلبي في المنع فمن ذلك:
١- يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عليه السلام» [رواه البخاري].
قالوا: في الاحتفال بمولده مشابهة للنصارى!
والحق أن من يستعمل هذا النوع من التحليل عنده جهل بمسالك اللغة.
فالأسلوب هنا نهي مع تشبيه، فالنهي هنا ليس في المطلق، ولكنه مقيد بوجه الشبه، كما يقول بعضنا لبعض: لا تحاسبني محاسبة الغريب. فالطلب هنا ليس نفي المحاسبة، ولكن نفي التشدد؛ لأن رابطة القرابة تشفع في التساهل.
وهذا منه؛ فنهي النبي ليس نهيًا مطلقا عن الإطراء -الذي كان يقع بالقول والفعل- وإنما عن نوع معين من الإطراء وهو زعم أن عيسى هو ابن الله، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسلك معه نفس مسلك النصارى فندعي له ما ليس له من ربه.
أما الاحتفال به فليس إطراءً ممنوعًا؛ لأن النبي احتفل بالأنبياء قبله، وقد أشرنا لقصة عاشوراء.
وهل منع النبي حسانًا من إطرائه وهو القائل:
خلقت مبرَّأً من كل عيب ####### كأنك قد خلقت كما تشاء
أليست مشيئة الخلق بيد الخالق!
ومنه قوله:
وأجمل منك لم تلد النساء
مع أن القرآن قد أثبت جمالا خاصا لسيدنا يوسف!
فهل يقال سكت النبي عن إطراء ممنوع؟!
٢- استدل المانعون بظاهر حديث: «كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ»[رواه مسلم وغيره، واللفظ للنسائي].
قالوا والاحتفال بمولده حادث ولم يقم به الجيل الأول.
وهذا أيضا من ضعف الفهم والتسبيب:
أما قولهم: الاحتفال حادث، فخطأ بين، لأننا أثبتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص يوم مولده باحتفاء، وجعل سبب الاحتفاء هو مولده.
فمن احتفى فقد اقتفى.
وكان أولى بهم أن ينكروا صورة الاحتفال لا أصله.
ومع ذلك فحتى الصورة في أصلها من المباحات، مثلها مثل صورة الاحتفال بالعرس وبالمولود وبالنجاح وبالعودة من السفر، فيها ما يقع ديانة، وفيها ما يقع عرفًا.
فإذا ما جئنا إلى نص الحديث فنقول: لا يمكن أن يكون للفظ (كل) هنا عموم مطلق، وإلا توقف بنا الزمان عند عصر النبوة، وذلك أن الحديث استعمل طريقة القضية المنطقية بطريقة الاستدلال الاستنباطي.
فالجزء الأول: كل محدثة بدعة.
والجزء الثاني: كل بدعة ضلالة.
والجزء الثالث: كل ضلالة في النار.
والنتيجة: كل محدثة ضلالة وهي في النار.
وذلك يشبه ما يورده الفقهاء في مسألة تحريم المسكر؛ فيقولون:
كل مسكر خمر.
وكل خمر حرام.
والنتيجة: كل مسكر حرام.
والسؤال: هل يمكن حمل (كل) في الحديث «كل محدثة بدعة» على العموم، فيصير كل أمر حادث لم يقع هو ضلالة وهو في النار؟!
الجواب بالقطع لا. ليس فقط لأن هذا يعني توقف الزمان عن الحوادث، ولكن أيضا لأن التطبيق العملي في عهد النبوة والصحابة أتى بالحادث الجديد.
هذا أمر، والثاني أن لفظ (كل) هنا يشمل حوادث الدنيا وحوادث الدين، فيكون العموم مانعًا من ركوب غير الخيل والبغال والجمال، ويكون مانعًا من حمل غير السيوف، ويكون مانعًا من الزراعة بالآلات، ويكون مانعًا من السفر بغير السفن والجمال، ويكون مانعًا من أنواع لا تحصى من اللباس والمآكل والعادات.
فإذا ثبت أن هذا غير مقصود قطعا، لأن النبي قبل إحداث ما لم يكن قبل نص الحديث، وأحدث الصحابة من بعده في أمر الدنيا والدين ما لم يكن موجودًا وقت النص، فلا يكون المعنى إلا على سبيل العموم المخصوص.
ولبيان المسألة هنا أفصل القول في بيان الفرق بين العام المطلق، والعام المخصص، والعام الذي أريد به الخصوص.
فأما الأول: فهو اللفظ المستغرق لما يصلح له من غير حصر.
ومثاله قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]. فهو عام غير مخصوص، إذ يشمل كل خلق وكل أمر، ولو دخله الخصوص لحدثت المنازعة في الألوهية.
وأما العام الذي دخله التخصيص فهو ما كان عمومه مستغرقًا ومرادًا، ولكنه دخله ما يرفع الاستغراق في بعض ما يصلح له.
مثال ذلك: قولنا: صلاة الظهر أربع ركعات، فصلاة الظهر أربع ركعات هذا عام في كل مصلٍّ، سواء كان رجلا أو امرأة، مكلفًا أو غير مكلف. ولكن هذا العموم دخله التخصيص في حال السفر فصارت الأربع ركعتين. فيصير العموم مخصصًا بحال الإقامة.
وأما العام الذي أريد به الخصوص، فهو لفظ عام بأصل الوضع، ولكن عمومه غير مراد.
ومثال ذلك: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: 173]، فلفظ الناس المكرر هنا وإن كان يدل على جنس عام غير محدد بأصل الوضع، إلا أنه هنا بواقع السياق يشير إلى مخصوص معلوم، فالناس الأولى تشير إلى نعيم بن مسعود الأشجعي، والناس الثانية تشير إلى أهل مكة وأحلافهم الذين هاجموا المدينة في غزوة الخندق.
فمع عموم لفظ الناس، إلا أنه استعمل بمعنى مخصوص.
ومن ألفاظ العموم لفظ (كل) فبأصل الوضع يجب أن تشمل كل ما يصلح للكلية، ومنه قولنا: كل الناس، فتشمل كل من هو ناس، وكل المؤمنين، تشمل كل مؤمن.
ومع ذلك فإن استعمال اللغة جعل لـ(كل) عموما مطلقا، وعموما أريد به الخصوص.
فمن الأول: قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن: 26]، فهنا الكلية تشمل كل حي على وجه الأرض، ولا تستثني أحدًا من المخلوقين.
ومن الثاني: قوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25]. فمقصود (كل) هنا أريد به الخصوص، والمعنى: تدمر كل شيء أمرت بدماره، وليس كل شيء بالمطلق، وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [الأحقاف: 25]. فبقاء المساكن دل على أنها خرجت من عموم (كل)، ولكن لما كان الأكثر هو الهالك عبر عنه بالكلية.
ولمعرفة الفرق بين (كل) العامة و(كل) التي أريد بها الخصوص نرجع للسياق والمعرفة العرفية، فكل ما جاز فيه الاستثناء فهو ليس كلًّا مطلقًا.
فقولنا: أكرم كل العلماء إلا من غاب منهم. فـ(كل) أريد به الخصوص لوقوع الاستثناء بالنص.
وقولنا: أطعم كل محتاج. هو عموم أريد به الخصوص عرفًا، لأنه لا طاقة لمكلف أن يصل إلى كل محتاج، فيكون المعنى: أطعم كل محتاج تستطيع إطعامه.
وهنا..
إذا ظهر الفرق بين ما تشير إليه كلمة (كل)، نجد أن السنة النبوية قد استعملت لفظ (كل) بالدلالات السابقة.
وسأذكر هنا بعض الأحاديث التي وردت فيها كلمة (كل) وهي تدل على مخصوص:
– قوله صلى الله عليه وسلم: «لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا» [رواه البخاري]. فكل مسلم هنا بعرف الشريعة لا بد أن تقع على المكلفين، لأنهم أهل الحقوق، فيخرج الأطفال مع كونهم من المسلمين، ويخرج المجانين لعدم التكليف، ويخرج أصحاب الأعذار لعذرهم، ويكون المعنى: على كل مسلم مكلف قادر …
– قوله صلى الله عليه وسلم: «الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنَ السَّامِ» [رواه البخاري]، فلفظ (كل) هنا لا يمكن أن يقصد به العموم المطلق فيكون أنها قد تشفي من كل مرض يصيب الإنسان؛ لأن الله لم يخلق لكل الأمراض دواء واحدًا، ولكن التقدير كما قال ابن حجر: (من كل داء تشفي منه، أي بالتجربة). وقال الخطابي: (هو من العام الذي يراد به الخاص. وإلا لترك الناس العلاجات جملة واكتفوا بالحبة السوداء!).
– ومنه قول أبي هريرة: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ» [رواه الشيخان]. ولكن يستثنى هنا رمضان لأن الصوم فيه واجب، بخلاف الموصى به هو تطوع، ومن نوى التطوع بالصوم في رمضان لم يقع منه لانشغال الوقت بالواجب.
وبعد فهذه بعض الأمثلة التي وردت فيها كلمة (كل) ولم يقصد بها العموم، وإنما هو عموم يدل على مخصوص.
فإذا ما عدنا إلى الحديث «كل محدثة بدعة..» نجد أن واقع الحال ومقتضى عمارة الأرض قائم على الأحداث، فكل يوم فيه الجديد غير المسبوق، وقد وقع هذا في حياته صلى الله عليه وسلم ولم يعده ضلالا، ووقع من بعده ولم يعد ضلالا، وما زال يقع التطور في كل شيء بالإحداث ولا يقول عاقل: هذا ضلال!
فلا يبقى إلا أن نخصص فنقول: إن المقصود: كل محدثة في الدين بدعة. فيكون من العام الذي يدل على مخصوص، وهو الدين.
فهل هذا المعنى مقصود؟ وهل كل حادث في الدين بدعة؟
أولا: لا بد أن نحدد مفهوم الحادث في سياق الحديث وليس في المطلق.
فهناك حوادث في الغايات، وهناك حوادث في الوسائل.
والغايات في الدين معلومة لا زيادة عليها، وأما وسائلها فليست محدودة.
فمن ذلك مثلا تعلم قراءة القرآن غاية، ووسيلتها في عهد النبوة مقصورة على التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم، وممن تلقى عليه.
وتطور الزمان وتفرق المكان أتى بالحادث غير المسبوق، فظهرت المدارس والكتاتيب، والمعاهد المتخصصة، وظهر التعليم بالمواجهة، والتعليم عن بعد، ثم أحكمت الدرجات، وقننت القواعد، واخترعت الشهادات والإجازات وغيرها من الحوادث.
فهل يقول عاقل: إن إحداث وسائل جديدة لتحصيل غاية تعلم القرآن من البدع؟!
ومن ذلك أيضا حفظ النظام والأمن العام من الغايات، ووسيلته في عهد النبوة اشتراك مجتمع المدينة في ذلك أفرادًا. ولكن مع تطور الزمان استحدثت وسائل جديدة فصار هناك شرطة، وعسس وقوانين منظمة لحياة الناس في يومهم وليلتهم، وصارت هناك عقوبات وسجون، وقيود على السفر والانتقال من مكان إلى مكان، حتى لزيارة البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف، وكل هذه من المحدثات في الوسائل. فهل يقول عاقل إن كل هذا من الضلال ويجب أن نعود لما كان عليه العهد النبوي حيث مجتمع المدينة المنورة، فيكون الناس أفرادًا هم القائمين على النظام والأمن؟!
ومن ذلك أيضا حفظ النسل بفضيلة الزواج، ووسيلته في العهد النبوي الشريف هو العقد والإشهار.
ولكن مع تطور الزمن حدثت مراسم ومقتضيات أخرى، فصار التوثيق مثلا جزءا من عقد الزواج، وعليه تترتب الحقوق في حالة المنازعة في الحقوق والنسب، وصدرت قوانين منظمة لعملية الزواج والطلاق لم تكن موجودة في العهد الأول.
فهل يقول قائل: إن التوثيق والقوانين المنظمة من المحدثات والضلالات؟!
وقس على ذلك كل ما اقتضى توثيقا الآن، كالوصية والوقف والهبة وغيرها مما نظمه القانون.
فإذا كانت الغايات محفوظة، والوسائل متنوعة، وكان هذا هو روح التشريع، فالفرح والاحتفاء بالمولد الشريف من أجل الغايات، لأنه مأمور به في القرآن، فهو من توقيره: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 9]، وهو من واجب تذكره: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وهو من تعظيمه: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، وهو شعار محبته: « مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ» [رواه مسلم].
ويبقى الكلام في وسيلة إظهار هذه المحبة والتوقير، فما كان مشروعًا جاز، وما خالف الشرع امتنع، فتفرق بين الغاية ووسيلة تحصيل الغاية.
ثانيا: لقد وقعت الحوادث غير المسبوقة من الصحب الكرام ومن التابعين بلا نكير، ولم يعتبر ذلك تعديًا على الدين كما نراه هذه الأيام، ومن ذلك:
– جمع القرآن في مسودة واحدة بدل الصحف المفرقة، ولا يقول قائل: إن النبي لم يكن لديه وقت لفعل ذلك أو أنه كان يخشى النسخ، فقد بقي النبي ثلاثة أشهر بعد نزول آخر قرآن لا ينزل عليه شيء، وإعلامه بذلك من جبريل لم يكن شيئا مستحيلا شرعا، وهذه مدة كافية لجمع القرآن وهو شاهد، مع قيام الحاجة، ومثل ذلك في مسألة النسخ؛ فلو كان النسخ مانعا من الكتابة، لما كتبت آية واحدة في صحيفة، ولما كانت الصحائف تكتب ويقع النسخ ولا حرج، فمثل ذلك في الكتاب يمكن أن يمحى في أي وقت في حياته.
– جمع الناس على إمام واحد في رمضان، بالصورة التي عليها العمل منذ العهد العمري، والتي لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر مع قيام الحاجة.
– إبطال قسمة أرض السواد في العراق على الفاتحين، وتركها ريعًا بين المسلمين، في عهد عمر مخالفة لما كان عليه الحال في عهد النبي وأبي بكر في قسمة الفيء.
– إحداث وظيفة معلم القرآن في المسجد في عهد عمر.
– إيقاف عمر العمل بسهم المؤلفة قلوبهم، مع أن النبي كان يفعله لآخر عمره.
– إسقاط الجزية في عهد سيدنا عمر عن بني تغلب مع كونهم من نصارى العرب، وهذا أمر حادث لم يقع في العهد النبوي ولا عهد أبي بكر.
– ومن ذلك جعل طلاق الثلاث ثلاثًا في عهد عمر أيضًا، وعلى حسب رواية ابن عباس أن ذلك لم يكن الحال في عهد النبي ولا أبي بكر، فيكون حادثا.
– أبطل عمر أيضا بيع أمهات الأولاد، وكن يبعن في عهد النبي وعهد أبي بكر.
– أثبت عمر في حد شرب الخمر عددًا معينًا من الجلد ولم يكن قبله.
– ومثل ذلك أحدث عثمان الآذان الأول يوم الجمعة.
– وجمع عثمان القراءات الصحيحة في كتاب واحد وحرق غيره، وهو أمر لم يقع في عهد من قبله.
– وزاد التابعون في عهد الدولة الأموية في رسم المصحف علامات ونقاطًا، ولم تكن في العهد الأول. وزادوا بعد ذلك في عهد الدولة العباسية علامات الوقف والابتداء، ولم تكون في عهود سابقة.
– وأحدث أئمة الحرمين الالتزام بختم القرآن في صلاة القيام في رمضان، وأحدثوا صلاة التهجد في جماعة، ولم تكن في عهد النبي ولا الصحابة.
– ومن ذلك إحداث ستة درجات في منبر النبي صلى الله عليه وسلم في عهد الدولة الأموية، مع اتساع رقعة المسجد وبعد الناس عن المنبر مع أنه كان ثلاث درجات قبل ذلك.
– ومن ذلك إحداث قوانين علمية لم تكن في العهود الأولى، كأحكام التجويد ومنها تفصيل الصفات والمدود، والوقف والابتداء وغيرها، وكذلك الكلام في العقائد والفلسفة، وقسمة الفقه على مذاهب بأسماء أصحابها، والقراءات بأسماء أصحابها، والمسانيد بأسماء أصحابها، وتحديد التعريفات الاصطلاحية لكل علم وفن، وما يترتب على ذلك ديانة، كل ذلك حادث ولم يكن في العهد الأول.
فهل هذه الأمثلة وغيرها مع كونها من المحدثات تعد من الضلالة التي وردت في الحديث؟!
والصواب الذي يستقيم معه فهم الحديث في ضوء ما سبق أن يكون الإحداث الممنوع في الدين في الغايات وليس في الوسائل، وذلك كمن يحدث فرضًا سادسا للصلاة، أو يجعل رمضان شهرين، أو ينقل فرض الجمعة للأحد مثلا، فكل هذا من الضلال الممنوع، أما الوسيلة الجديدة المباحة مع الغاية المستقرة فلا تدخل في نطاق ما ورد في الحديث.
٣- استدل المانعون بحديث: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [رواه الشيخان].
والحق أن الاستدلال بهذا الحديث في هذا الباب من أعجب ما يكون، وذلك للآتي:
أولا: من جهة النظم نجد أن الضمير في (منه) يعود على الأمر، والأمر هنا مقصود به الدين؛ لأن الحوادث في أمر الدنيا متوقعة.
والسؤال هنا، هل الاحتفال بمولده الشريف والفرحة به، وإظهار السعادة بمقدمه لهذه الدنيا ليس من (أمرنا)؟!
قد نتحدث عن وسيلة الفعل ما يجوز منها وما لا يجوز، لكن هل يمكن أن نختلف في ندب الاحتفاء والاحتفال به وبقدومه، فنعد هذا خارجًا عن الدين؟!
ثانيا: هل أحدث الصحابة أفعالا ترجع إلى أصل، دون الرجوع إليه مسبقًا فأقرهم عليها؟
الإجابة: نعم ولهذا أمثلة منها:
– حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع خشخشة بلال في الجنة، فلما بشره بها، قال بلال للنبي: ما أذنت يوما إلا وصليت ركعتين، وما أحدثت إلا توضأت فصليت ركعتين. ففعل بلال هنا هو اجتهاد منه، وإلا ما سأله النبي عن فعله، إذ يلزم أن يعرف النبي السبب دون استشكال.
فهل كان بلال محدثًا ومبتدعًا، قبل أن يقره النبي صلى الله عليه وسلم؟!
– ومن ذلك ما زاده الصحابي في ذكر الرفع من الركوع، ولم يكن سمعه من النبي من قبل، ولم يعده الرسول إحداثا، حيث إنه من (الأمر).
– ومن ذلك التزام أحد الصحابة بقراءة سورة الإخلاص في كل ركعة بعد قراءة غيرها، وكان هذا حدثًا، لأن أصحابه أنكروا عليه، ولأن النبي قال: «سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟» [رواه الشيخان].
فلو كانت القراءة بهذه الصورة مما أُثِرَ عن النبي في صلاته لما جهلها من معه، ولما قال النبي: سلوه. بل كان يكفي أن يقول لهم: أصاب.
والسؤال: هل كان هذا الصحابي محدثا في (الأمر)؟!
– ومن ذلك استعمال أحد الصحابة الفاتحة في الرقية، دون أثارة من علم سابق، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟» [رواه الشيخان].
فهل كان الصحابي محدثًا في (الأمر) ما ليس منه حينها وقبل أن يقره النبي عليها.
ومثل ذلك أمثلة عدة فعل الصحابة فيها الأمر ثم رجعوا إلى الرسول، وهم في فعلهم أحدثوا ما لم يسمعوه أو يقع لهم به أمر سابق، ومع ذلك لم يحتج عليهم النبي بالحديث السابق، بل صوب من صوب وخطأ من خطأ، لأن المعيار لم يكن مجرد الإحداث، وإنما الإحداث في الأمر وهو الدين.
٤- المانعون استدلوا بدليل سلبي وهو عمدة استدلالهم، ومفاده: أن هذا الأمر على شهرته لم يقع من النبي ولا الصحابة الكرام، ولو كان فيه خير لفعلوه، فهم السابقون بالخير.
وهذه المدافعة ترجع إلى مسألة أصولية مفادها: ما حكم ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟
وقد فصلنا القول في هذه المسألة في بحثنا الموسوم بتروكات العهد النبوي والصحابي (دراسة تحليلية تأصيلية).
وباختصار نقول:
ما ترك النبي فعله على أنواع كثيرة وليس لها حكم واحد، ومن ذلك:
– ما تركه لعدم قدرته عليه وذلك كفعل المستحيل.
– ما تركه جريًا على عادة له أو لقومه كترك أكل الضب.
– ما تركه نسيانًا منه كترك ركعتي من صلاة رباعية لعارض النسيان.
– أن يترك أمرًا لعامل المشقة، كالأمر بالسواك.
– أن يترك أمرًا فيه مصلحة خشية مفسدة أكبر وذلك كترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم.
– ما ترك عمل بعض أفراده من أعمال الخير اعتمادًا على دخوله في أصل عام ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
– ما تركه لأنه لم يكن قد وقع في وقته، وذلك ككثير من الأمور التي ظهرت بعد وفاته ومنها اتخاذ الوزراء والشرطة والجهاز الإداري للدولة ومجامع الإفتاء والقضاة المعينين.
– ما تركه لعدم الحجر على المستقبل ومنه ترك تسعير السلع.
– ما تركه لكونه ممنوعًا عليه دون الأخرين، ومنه أخذ الزكاة، وسماع الناي.
– ما تركه قصدًا في باب العبادات، مثل ترك الأذان للعيد.
والصواب أن ترك النبي لشيء ليس له حكم واحد، بل تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يترك النبي شيئًا ويتوجب علينا فعله، وقد يتركه ويحرم علينا فعله.
– ما تركه ويحرم علينا فعله ومنه الأذان لصلاة العيد أو لصلاة الاستسقاء.
– ما تركه ويكره لنا فعله ومنه إطالة زمن الخطبة.
– ما تركه ويباح لنا فعله ومنه تسعير السلع في الأسواق.
– ما تركه ويندب علينا فعله ومنه استعمال الحساب في تحديد مواقيت الصلاة.
– ما تركه ويجب علينا فعله ومنه ما قام به الصحابة من جمع القرآن، وإقامة القضاء، وتقسيم العلوم، وإقامة دور الإفتاء وغيرها.
هذا ما يخص دعوى الترك، على أننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الاحتفال بمولده الشريف، بل احتفل به بصوم ذلك اليوم، واحتفل به الصحابة بصوم اليوم كذلك اقتداءً به وفرحًا بمولده.
فإذا ثبت هذا بقي الخلاف فقط في صورة الاحتفال، هل يكون بالصوم فقط أو يدخل فيه غير الصوم.
والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صورة الاحتفال بغير الصوم لعلل منها:
– تواضعه المعروف.
– عدم الإثقال على أمته بكلفة قد لا تكون في مقدورهم.
– خشية تحويله إلى ملك من الملوك مثل قيصر وكسرى.
– فقر أهل المدينة في هذه الأوقات وانشغال أهل الإسلام بمرحلة التأسيس.
– أن الصحابة كان يرون النبي كل يوم وليلة، ومن بعد وفاته كانوا حديثي عهد به، فلم يحتاجوا لزيادة في التذكر والتذكير.
أما مع تغير الأحوال وحصول الأمان في كل ما سبق فقد ارتفعت العلل التي منعت من بعض صور الاحتفال، فلن يعلن النبي ملكًا الآن، وحالة المسلمين الاقتصادية تسمح بإظهار أنواع الفرح والاحتفال، ونحن بعيدو عهد به وبصحابته ما يحوجنا للتذكير به وبيوم مولده.
فكل هذه مقتضيات ومسوغات للتوسع في صورة الاحتفال الشريف.
وخلاصة هذه النقطة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد احتفى بيوم مولده ولكن بصورة معينة، ونحن نوافق أصل الاحتفال، ونزيد في الصورة، ودائمًا هناك فرق بين ذات الفعل وهيئة الفعل، فالطواف حول الكعبة ذات الفعل ورمي الجمار ذات الفعل، وقد طاف النبي راكبًا ليراه الناس، وهذه هيئة في الفعل، فلا يقال: إن من يطوف راكبًا هو السنة، بل إن الطواف مع الركوب الآن ممنوع لآنه فيه خطر على الآخرين.
فذات الفعل مستمرة وهيئته متغيرة.
٥- استدل المانعون للاحتفال بالمولد الشريف بما يقع فيه من بعض المخالفات، ومنها المبالغة في الزينات، ومجالس الإنشاد والذكر، وما قد يقع فيها من اختلاط بين الرجال والنساء.
وهذا الاعتراض يقبل فقط إذا كان يرد على الهيئة وليس على أصل الاحتفال.
ونحن نقول أيضا: إنه لا يجوز في الاحتفال إلا ما جاز بالشرع الحنيف.
على أننا لا بد أن نحدد ما يجيزه الشرع وما لا يجيزه:
فلا يمنع الشرع من الزينات وصنع الحلوى وغيرها إذ هي من أعمال الدنيا، وهي من المباحات الأصلية. فلا فرق أن تكون ليوم مولده أو لعرس أو لمناسبة أخرى، وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم إظهار الفرح في الأعراس بأنواع من المظاهر والزينة.
ولا يمنع الشرع من الإنشاد والذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مديحه وأجاز عليه، وما زال الناس يمدحون النبي بأفضل المدائح صنعًا وترديدًا، إنشادًا وحداءً منذ عهد الصحابة.
ولا يمنع الشرع من مجالس الذكر سواء كانت لقرآن أو لذكره صلى الله عليه وسلم، بل هي من المندوبات التي تحضرها الملائكة، وكونها في يوم مولده أفضل من غيره من الأيام، لأن زمان مولده أفضل من غيره، كما أن الذكر في عشر ذي الحجة أفضل من غيرها من الأيام.
والخلاصة أن الاحتفال بالمولد الشريف من المندوبات، وهو من توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، فعله في حياته وفعله الصحابة في صور معينة، وتوسعت الأمة فيه بأصل الإباحة، وترك النبي لصورة معينة من الاحتفال لا يدل على حرمتها أو منعها لقيام علة الترك، ولأن تركَ الهيئة لا يعني حرمة ذات الفعل.
والاحتفال بالمولد الشريف سنة السادة العلماء أصحاب المذاهب الأربعة، وأهل الحقيقة والطريقة وجمهور الأمة، والأثر يقول: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ» [أخرجه أحمد في مسنده].
صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا ونفعنا ببركته في الدنيا والآخرة.
المفتي د خالد نصر