(ع5) قال العلامة الكاساني رحمه الله في “بدائع الصنائع” (5/126): (وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ فُلَانٍ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ). وقال السيد نعمان خير الدين الألوسي الحنفي رحمه الله في “جلاء العينين” (516-517): (وفي جميع متونهم: أن قول الداعي المتوسل: بحق الأنبياء والأولياء، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام: مكروه كراهة تحريم، وعللوا ذلك بقولهم: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق) انتهى. ولسد باب الذرائع على أصحاب الهوى, ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ صحيحٌ يبين ويحدد حق الله على عباده، ويبين بالمقابل حق العباد على الله في حال أدائهم لحق الله، وتلك الإجابة نجدها واضحة جلية في الحديث الذي رواه معاذ بن جبل، حيث قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ» [متفق عليه]. فهل يجوز أن نتوسل بحق أحد من المخلوقين عند الله؟

شكرًا للأخ الكريم على اجتهاده في نقل النص، وإن كنت أحسبه لم يقرأ الكلام في البدائع كاملا؛ وذلك لأن الكلام الذي بعد هذه الجملة مباشرة يقول فيه الكاساني رحمه الله: (وقد روي عن أبي يوسف أنه لا بأس بذلك). وعليه فالأمر فيه خلاف بين من يجيز ومن لا يجيز، وعند الاختلاف بين الأئمة نذهب للترجيح -أقصد طلبة العلم لا المقلدين-.
فهل من دليل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته؟
أولا: ظاهر القرآن:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]. قال العلماء: الوسيلة أن تتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته.
والوسيلة أن تتقرب إلى الله بعملك الصالح كما ورد في حديث الثلاثة الذين أغلق عليهم الكهف فدعوا الله بعملهم الصالح والحديث مشهور.
والوسيلة طلب الدعاء من المخلوق كالصالحين والآباء والعلماء والمريض والمسافر، وغيرهم مما وردت به الأدلة.
وهذا الذي قلته لا يخالف فيه أحد حتى غلاة الوهابية، وأنا أسأل -بالله عليكم-: أيهم أكرم عند الله بركة النبي وجاهه ومقامه أم أعمالنا القاصرة؟ أيهم أقرب عند الله جاه النبي ومكانته أم دعاء الصالح والعابد والمريض والمسافر؟ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر وهو يودعه للحج: «أَشْرِكْنَا يَا أُخَىَّ فِي دُعَائِكَ» فهل النبي في حاجة لدعاء عمر ليتخذه وسيلة أم الأمر تعليم للأمة أن المسافر يجوز التوسل بدعائه؟
ثانيا: من الأحاديث:
أولًا: حديث عثمان بن حنيف:
«أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يُعَافِيَنِي. قَالَ: إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قَالَ: فَادْعُهْ قَالَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ اللهمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ». رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في السنن، والحاكم في مستدركه، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والطبراني في المعجم الكبير والصغير، والبيهقي في دلائل النبوة، وغيرهم. وقد صحح الحديث طائفة كثيرة من أئمة الحديث، ومن أولئك الإمام الترمذي فقال: (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ)، والإمام ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم فقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، والطبراني والبيهقي، والحافظ المنذري والذهبي، والهيثمي وابن حجر في “آمالي الأذكار”.
ثانيًا: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَخَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ أَقْبَلَ الله عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ».
فانظر إلى قوله: «بحق السائلين عليك» وخير السائلين هو حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صحح هذا الحديث جمع من الحفاظ، منهم الإمام الحافظ الدمياطي في “المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح”، والحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ الحافظ المنذري، والحافظ ابن حجر العسقلاني في “أمالي الأذكار”.
ثالثا: حادثة استسقاء عمر وتقديمه العباس بن عبد المطلب وهي في البخاري: «اللهم إنا كنّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا؛ وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» والنكتة هنا ليس في التوسل بالعباس فقط بل السؤال: لماذا اختار العباس من دون الصحابة؟ هل يقول أحد: إن العباس أفضل من عثمان أو من سعد أو من غيرهما من الصحابة؟
الجواب: لأن العباس هو عمُّ النبي فترجى بركته أكثر من غيره لاتصاله بالنسب الشريف.
وعليه: فإذا كان مجرد النسب علة للقبول من المنتسب فما بالنا بالتقرب إلى الله بصاحب النسب نفسه وهو النبي.
وقد نص أئمة الفقه من المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم:
أئمة المالكية:
ذكر الإمام العلامة القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي المالكي أحد الرجال السبعة المعروفين في مدينة مراكش في كتابه “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” بسنده أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قومًا فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية [الحجرات: 2]، ومدح قومًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية [الحجرات: 3]، وذم قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًّا. فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِمَ تصرفْ وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].
قال الشهاب القرافي في “الذخيرة: (وحكى العتبيُّ أنه كان جالسًا عند قبره عليه السلام فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه %%% فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه %%% فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: «يا عتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له»).
وقال الإمام عبد الحق الأندلسي الأشبيلي المالكي في كتابه “العاقبة في ذكر الموت”: (ويستحب لك رحمك الله أن تقصد بميتك قبور الصالحين، ومدافن أهل الخير فتدفنه معهم، وتنزله بإزائهم، وتسكنه في جوارهم، تبركًا بهم، وتوسلًا إلى الله تعالى بقربهم، وأن تجتنب به قبور من سواهم ممن يخاف التأذي بمجاورته والتألم بمشاهدته، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الميت يتأذى بالجار السوء كما يتأذى به الحي»).
الحنفية:
قال الإمام عبد الله بن محمود الموصلي الحنفي في كتابه “الاختيار لتعليل المختار في باب زيارة المسجد النبوي”: (يا رسول الله نحن وفدك وزوار قبرك، جئناك من بلاد شاسعة، ونواح بعيدة، قاصدين قضاء حقك والنظر إلى مآثرك، والتيامن بزيارتك، والاستشفاع بك إلى ربنا، فإن الخطايا قد قصمت ظهورنا، والأوزار قد أثقلت كواهلنا، وأنت الشافع المشفع، الموعود بالشفاعة والمقام المحمود، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]. وقد جئناك ظالمين لأنفسنا، مستغفرين لذنوبنا، فاشفع لنا إلى ربك، واسأله أن يميتنا على سنتك، وأن يحشرنا في زمرتك، وأن يوردنا حوضك، وأن يسقينا كأسك غير خزايا ولا نادمين). وبهذا صرح المُلا على القاري وغيره من أئمة الحنفية.
الشافعية:
قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله في “المجموع” في باب زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه).
الحنابلة:
قال الإمام ابن مفلح الحنبلي في “الفروع”: (وَيَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِصَالِحٍ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرُّوذِيِّ: إنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَائِهِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ).
ولولا مقام الإفتاء لزدنا في هذا الباب من كلام التابعين والأئمة الطاهرين وأهل الحقيقة والطريقة ما يثلج قلب المحب المؤمل في رضا الله ورضا رسوله.
المفتي: د خالد نصر